تبدو العلاقة اللبنانية–
السورية أمام مرحلة جديدة من الاختبار مع الزيارة التي قام بها وفد سوري رسمي إلى
بيروت خلال الأيام الماضية، في إطار استكمال
النقاش حول الملفات العالقة بين البلدين. وقد اكتسبت هذه الزيارة أهمية استثنائية قياسًا على سابقاتها، بعدما شملت البحث في قضايا شائكة ظلّت لسنوات طويلة خارج التداول الرسمي، بل كان مجرد التطرق إليها محظورًا في عهد النظام السوري السابق.
فإلى جانب مناقشة ملف الموقوفين والمفقودين، تسرّبت معلومات عن طلب لبناني بالحصول على معطيات مرتبطة بسلسلة الاغتيالات السياسية والأمنية والإعلامية التي وقعت في تلك المرحلة، وهو ما اعتُبر تطورًا غير مسبوق في مسار النقاشات الثنائية، ولا سيما أنّ اللقاءات عكست هذه المرة جدية لافتة بدت مختلفة عمّا كان سائدًا سابقًا، وسط انطباع لبناني بأن
دمشق تُبدي استعدادًا للتعاون بدرجة لم تكن معهودة من قبل.
وفيما يبقى الحوار مع
سوريا ملفًا شديد الحساسية بالنسبة إلى الداخل اللبناني، في ظلّ الانقسامات الحادة حول دور دمشق التاريخي في
لبنان ، فضلاً عن اختلاف المقاربات للنظام الحالي، تُطرَح تساؤلات عمّا إذا كان الانفتاح السوري الذي رُصِد في الزيارة الأخيرة يعكس تبدّلًا حقيقيًا في مقاربة العلاقة مع لبنان، أم أنّه يندرج ضمن حسابات سياسية أوسع تحاول دمشق من خلالها إعادة تثبيت حضورها الإقليمي.
الموقوفون والمفقودون على الطاولة
لعلّ أبرز ما تداوله الوفد السوري في بيروت كان ملف الموقوفين والمفقودين، الذي لطالما شكّل جرحًا نازفًا في العلاقات الثنائية. فقد أشارت المعلومات إلى طلب الوفد السوري من لبنان تزويده بلائحة مفصّلة بأسماء المفقودين والمعلومات المتوافرة عنهم وعن السجون التي احتُجزوا فيها، من أجل تتبّع أثرهم، وهو ما ترك لدى الجانب اللبناني انطباعًا بأن هناك نية لإحداث اختراق فعلي، وإن كان الطريق لا يزال طويلًا وصعبًا.
وإلى جانب المفقودين، ركّزت المباحثات على ملف الموقوفين السوريين في لبنان، الذي يوليه الجانب السوري أهمية استثنائية، خصوصًا في ضوء الحديث عن ظلم يتعرّض له الكثير من السوريين في السجون
اللبنانية ، وبينهم من احتُجزوا على خلفيات سياسية مرتبطة بمعارضتهم للنظام السابق. في هذا السياق، جرى بحث آليات لتبادل المعلومات، مع طرح إمكانية إبرام اتفاقية قضائية وأمنية لتسليم المطلوبين وتنظيف السجون من المخالفين.
أما المفاجأة الأبرز، فتمثلت في ما تسرّب عن طلب رسمي لبناني بالحصول على معلومات تتعلق بالاغتيالات التي هزّت البلاد في مرحلة سابقة، فهذه هي المرة الأولى التي يُطرح فيها النقاش بهذا الوضوح مع دمشق، ولو أنّ ذلك لا يعني بالضرورة التوصل إلى نتائج فورية، لكنه على الأقلّ يكشف رغبة لبنانية في إعادة صياغة قواعد العلاقة، بحيث لم يعد ممكنًا تجاوز الذاكرة السياسية والأمنية الثقيلة، حتى مع تبدّل النظام في سوريا.
ما وراء الانفتاح السوري
تتعدد التفسيرات لاندفاع دمشق نحو هذه المقاربة الجديدة. فهناك من يرى أنّ العلاقة تتقدّم في الاتجاهين، فللبنان مصلحة في فتح ملفات كانت تُصنَّف على أنها محرّمات، وشكّلت جرحًا ثقيلاً في الذاكرة، وسوريا لها مصلحة في حلّ مشكلة الموقوفين السوريين، ومعالجة الندوب التي خلّفها النظام السابق، بما يمنحها صورة إيجابية أمام
المجتمع الدولي ، في لحظة تسعى فيها إلى ترميم حضورها الإقليمي والدولي.
لكن، على الرغم من الأجواء الإيجابية التي أحاطت بالنقاشات، يتخوّف جزء واسع من الأوساط اللبنانية من أن تتحول الوعود السورية إلى مجرّد مناورة سياسية هدفها تحسين صورة دمشق من دون نتائج ملموسة، فاللبنانيون سبق أن خبروا تجارب مماثلة في عهد النظام السابق، حيث بقيت اللجان المشتركة واجهة شكلية، وهي التي وُصِفت بأنّها "مقبرة المشاريع" فيما ظلّ العمق الحقيقي للملفات عالقًا في الكواليس.
لكن الجديد هذه المرة هو أنّ البحث شمل موضوعات كانت في الماضي من "المحرّمات". وهذا التطور، حتى لو لم ينتج عنه اختراق ملموس، يبقى بارقة أمل لأهالي المفقودين وذوي ضحايا الاغتيالات. ومع أن التفاؤل بتحويل هذه التطلعات إلى مسار مؤسساتي ثابت ما زال محدودًا، فإن فتح الباب أمام هذا النقاش بحد ذاته يؤشر إلى أن العلاقة بين بيروت ودمشق دخلت مرحلة جديدة، ستبقى تحت الاختبار في الأشهر المقبلة.
قد تؤسس زيارة الوفد السوري إلى بيروت، بما حملته من مفاجآت وملفات حساسة، لمرحلة تفاهمات تعيد صياغة العلاقة بين البلدين على أسس جديدة، أو قد تنتهي بإعادة إنتاج الخيبات إن تبيّن أنها خطوة تكتيكية. وبين هذين الاحتمالين، يبقى الثابت أن الملفات التي طُرحت، من الموقوفين إلى الاغتيالات، لم تعد قابلة للإقفال أو التجاهل، وأن لبنان يحاول للمرة الأولى منذ عقود أن يضعها على الطاولة بجدية، في مواجهة إرث ثقيل لا يمكن تجاوزه.