يبدو أنّ الخلاف بين رئيسي الجمهورية جوزاف عون، والحكومة نواف سلام، إن صحّ التعبير، لم يبقَ في الكواليس، بل خرج إلى العلن، فتكريم عون لقائد الجيش العماد رودولف هيكل، وتقليده وسام "الأرز الوطني" من رتبة الوشاح الأكبر، بدا بمثابة ردّ "ضمني" على رئيس الحكومة الذي كان قد انتقد بدوره ضمنًا الجيش والقوى الأمنية، بعد احتفاليّة "صخرة الروشة"، بسبب عدم منع "
حزب الله " من إضاءتها بصورة السيد حسن نصر الله.
ويكشف السجال بين الرئاستين الأولى والثالثة عن عمق التصدّع بين الرئيسين عون وسلام، ولو أنّ لقاء جمعهما اليوم ،فعلى الرغم من أنّهما يحرصان على عدم توجيه الكلام المباشر لبعضهما، إلا أنّ الرسائل المبطّنة التي خرجت من بعبدا والسراي أوحت بأنّ الاشتباك بين الرجلين دخل حيّزًا جديدًا أكثر حساسية، وهو ما من شأنه أن يفتح الباب على مواجهة سياسية غير معلنة، علمًا أنّ جذورها تعود إلى استحقاق تعيين حاكم
مصرف لبنان .
وفي وقت ترتفع الأصوات المؤيدة لسلام والمتضامنة معه بعد مشهدية الروشة، جاء تصريح رئيس الجمهورية جوزاف عون ليضع النقاط على الحروف: "الجيش والقوى الأمنية خط أحمر، وتوجيه الانتقاد لهما ليس في مكانه". لم يسمِّ عون أحدًا، لكنّ التوقيت والسياق حملا على اعتبار كلامه ردًّا ضمنيًا على سلام. وهكذا تحوّل الخلاف إلى اشتباك سياسي صريح، تُقرأ كل كلمة فيه كجزء من معركة أوسع على النفوذ والقرار...
صراع صلاحيات أم معركة نفوذ؟
اللافت أنّ السجال لم يكن وليد لحظة، بل تراكم نتيجة تباينات سابقة في مقاربة الملفات الحساسة. فسلام، منذ تسلّمه رئاسة الحكومة، أظهر نزعة إلى التشديد على أولوية القرار السياسي - المدني، وعدم ترك فراغ يمكن أن يُملأ من قبل الجيش أو الأجهزة الأمنية. في المقابل، يعتبر عون أنّ موقع الجيش خط أحمر لا يجوز المساس به، لا سياسيًا ولا إعلاميًا، وأنّ أي تشكيك بدوره يعني المسّ بآخر ما تبقّى من ركائز الدولة.
هذه الثنائية، بين منطق "مدنية السلطة" الذي يرفعه سلام، ومنطق "الجيش فوق التجاذبات" الذي يؤكد عليه عون، أخذت تترجم عمليًا في اشتباك غير معلن، سرعان ما ظهر إلى العلن بفعل أزمة الروشة وما تلاها. وتحوّل الملف إلى مادة انقسام سياسي وشعبي، إذ يرى خصوم سلام أنّه تجاوز حدود النقد المسموح به، فيما يعتبر مؤيدوه أنّه أعاد فتح نقاش جوهري حول موقع المؤسسة العسكرية في المعادلة الوطنية.
ولعلّ أكثر ما يزيد حساسية هذا الاشتباك أنّه يتقاطع مع ملفات خارجية ضاغطة. فواشنطن، التي تبعث برسائل متناقضة حول مستقبل المساعدات العسكرية للبنان، لا تُخفي أنّها تراقب العلاقة بين الرئاستين بدقة. أما
إسرائيل ، فهي تستثمر أي شرخ داخلي لتكثيف ضغطها، كما ظهر في تصعيدها الأخير عبر القصف والتهديدات. بذلك، تصبح المواجهة بين عون وسلام جزءًا من معركة أكبر تُرسم خطوطها على المستويين الإقليمي والدولي.
بري يدخل على الخط
كما في معظم
المحطات المأزومة، لم يتأخّر
رئيس مجلس النواب نبيه بري في محاولة لعب دور "ضابط الإيقاع". فالرجل الذي يملك خبرة طويلة في إدارة التوازنات
اللبنانية يدرك أنّ استمرار الاشتباك بين الرئاستين يهدّد بتفجير الوضع من الداخل، في لحظة سياسية لا تحتمل المزيد من التصدّع، علمًا أن المشكلة بين رئيس الحكومة و"حزب الله" مثلاً تكفي، ولا حاجة لخلق مشكلة جديدة وزيادة عناصر التصدّع.
وفي هذا السياق، تشير المعطيات المتوافرة إلى أنّ بري بدأ ينسج خيوط وساطة غير معلنة، يطرح من خلالها مخرجًا يقوم على تهدئة الخطاب، وإعادة رسم خطوط تواصل مباشرة بين بعبدا والسراي، تمنع الانزلاق نحو أزمة حكم شاملة، وهو ما يفترض أن ينجز في الساعات القليلة المقبلة. لكنّ التحديات أمامه تبدو معقّدة: غياب الثقة بين الطرفين، تمسّك كلّ منهما بخطابه، وتداخل الملف بالمعركة الكبرى حول موقع السلاح والقرار الأمني.
إلى ذلك، يدرك بري أنّ الأزمة المستجدّة بين رئيسي الجمهورية والحكومة ليست مستعصية بقدر ما أنّها تشكل تجليًا لهشاشة التوازن بين الرئاستين الأولى والثالثة. ومن هنا، يراهن رئيس المجلس على أن وساطته قادرة على إعادة تبريد الأجواء سريعًا، وإن كان الاشتباك الأخير قد أظهر أنّ خطوط التماس السياسية باتت أكثر هشاشة، وأن أي تفصيل يمكن أن يتحوّل إلى شرارة مواجهة جديدة
صحيح أنّ الاشتباك بين الرئاستين الأولى والثالثة لم يخرج عن كونه سجالًا سياسيًا قابلاً للاحتواء، في ظلّ حرص الرجلين على عدم "تكبير" الأمر، إن صحّ التعبير، لكنّه كشف بوضوح هشاشة العلاقة داخل مؤسسات الحكم، وأظهر الحاجة الدائمة إلى وسيط يعيد وصل ما انقطع. وهنا، يراهن رئيس مجلس النواب على خبرته في تدوير الزوايا لطيّ هذا الملف سريعًا، منعًا لتحوّله إلى عبء إضافي على مشهد داخلي مثقل أصلًا بالتحديات.