لم تكن المجزرة التي ارتكبتها
إسرائيل في بنت جبيل جنوبيّ
لبنان ، وأسفرت عن خمسة
شهداء بينهم أطفال، كسائر الخروقات
الإسرائيلية اليومية لاتفاق وقف إطلاق النار، فهي أعادت فتح الجرح المفتوح على الحدود، وطرح الأسئلة "الإشكاليّة" الكبيرة، خصوصًا أنّها جاءت في اليوم نفسه الذي كانت فيها لجنة الإشراف على اتفاق وقف إطلاق النار(الميكانيزم) تجتمع، بحضور المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس، وقد أضحت بمثابة "شاهد زور".
لم يكن الموقف اللبناني الرسمي من المجزرة ملتبسًا، بخلاف التعامل مع الخروقات اليومية الذي يوحي وكأنّ هناك من أذعن "للأمر الواقع"، إذ لم يتأخّر رئيس الجمهورية جوزاف عون في إدانتها من نيويورك مناشدًا المجتمع الدولي التحرّك.
على الضفّة المقابلة، كان رئيس الوزراء
الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يُروّج قبل سفره إلى نيويورك لرواية تقول إنّ ما سمّاه "هزيمة
حزب الله " وفّرت لإسرائيل "إمكان السلام مع جيرانها في
الشمال ". لكن هذا الخطاب يصطدم بمشهد الميدان: قصف يسقط شهداء مدنيين، واجتماعات دولية بلا قرارات حاسمة، وحديث لبناني رسمي عن خروق متواصلة لاتفاق وقف الأعمال العدائية. فهل يبيع نتنياهو العالم "فرصة سلام" فيما الممارسة على الأرض تقول العكس؟!
مجزرة بنت جبيل.. والحدّ الفاصل بين الحرب والتهدئة
لم تكن مجزرة بنت جبيل حادثًا منفصلًا عن سياق الأشهر الماضية على الحدود، فالمشهد يتكرّر منذ اتفاق وقف إطلاق النار، ولو كان وقعه أكبر هذه المرّة مع سقوط هذا العدد من
الشهداء ، وخصوصًا المدنيين، وهو ما قد لا يبدو غريبًا على إسرائيل التي لطالما كان الأطفال جزءًا أساسيًا من "بنك أهدافها"، في سياق سعيها الدائم للضغط المعنوي على المجتمع الجنوبي عبر استهداف النسيج الأهليّ والمدنيّ.
وفي وقت يفتح هذا النمط الباب أمام تصعيد غير محسوب مهما حاولت الأطراف إبقاءه "تحت السقف"، تميل ردود الفعل
اللبنانية ، الرسمية والشعبية، إلى قراءة مغايرة لرسالة النار الإسرائيلية. فالمجزرة، بدل أن تُحدث شرخًا داخليًا، تُعيد توحيد دائرة الإدانة بين مختلف اللبنانيين، وتُبرز الحاجة إلى ضرورة المواجهة، بل تعطي "حزب الله" سببًا إضافيًا لرفض الانصياع للضغوط الداخلية والخارجية من أجل تسليم سلاحه.
وبالمعنى السياسي، تعيد الجريمة تثبيت معادلة قديمة: كلّما تزايد استهداف المدنيين تقلّصت فرص أي "تهدئة قابلة للحياة"، لأنّ المجتمع المتروك تحت القصف لا يشتري وعود السلام بسهولة، في وقتٍ لا يبدو أنّ المجتمع الدولي قادر فعلاً على إلزام إسرائيل بوقف أي اعتداءات، وهي التي باتت توسّع دائرة حروبها في المنطقة دفعة واحدة، في سياق محاولتها فرض الهيمنة المطلقة، من دون أيّ حساب أو اعتبار لأحد.
اجتماع الميكانيزم… سقف القدرة وحدود التأثير
لعلّ المفارقة الأهم، وربما "الأخطر" في مجزرة بنت جبيل أنها تزامنت مع اجتماع لجنة الإشراف على اتفاق وقف إطلاق النار(الميكانيزم)، وهو ما بدا في الشكل معبّرًا أكثر من حصيلة اللقاء، الذي لم يخرج عن "جوهر" كل اجتماعاتها: تأكيد على "التهدئة" و"الالتزام بالقرار 1701" من دون آليات تنفيذية ملزمة توقف الانتهاكات القائمة. الأكثر دلالة أنّ الاجتماع عُقد على وقع المجزرة نفسها، ما ضاعف الانطباع الشعبيّ بأنّ الدبلوماسية الدولية لا تزال متأخّرة عن اللحظة ولا تمسك بأدوات الضغط الفعلية.
فعلى الرغم من أنّ الاجتماع كان مطوّلاً، لم يخرج بقرارات نوعية يمكن الركون إليها، في إشارة إلى محدودية ما يمكن أن تفعله الأطر التقنية عندما تتفلّت إسرائيل من القيود، علمًا أنّ العديد من الأوساط السياسية لم تبدِ "ارتياحها" لمضمونه، وتحدّث عن امتعاض لبنانيّ، ولا سيما على مستوى المؤسسة العسكرية، من نمط إدارة الملف وحدود ما يصل إليه من حماية للمدنيين على الأرض.
وسط كلّ ذلك، بدا تصريح نتنياهو عن "السلام مع الجيران في الشمال" أكثر من مستفزّ، ولا سيما أنّ اختبار هذه الرواية يبدأ من مكان واحد: الوقف الفعليّ للانتهاكات. فطالما أنّ بنت جبيل وغيرها تُقصف وتُعدّ الخسائر بين الأطفال، ستبقى الاجتماعات الدولية، مهما علت رتبتها، أقرب إلى "شاهد زور" يغطّي العجز بدل أن يُنتج حلًّا. لذا، فإنّ أي مسار واقعي نحو التهدئة يتطلّب أوّلًا وقف الخروق تحت سقف 1701، وثانيًا إطار ضمانات يُحاسب من يخرق.
بين خطاب "السلام" الذي يروّج له بنيامين نتنياهو ودماء أطفال بنت جبيل التي تتكلّم بصوت أعلى، تتبدّى الفجوة: الأولى تحتاج إلى أفعال تقطع مع نمط الاستهداف، والثانية تُذكّر بأنّ أمن المدنيين هو الامتحان الأوّل لأي تسوية. قد يكون الموقف اللبناني الرسمي مفيدًا في وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته، أو بالحدّ الأدنى، إظهار "عجزه"، لكن هل يكفي فعلاً، وهل من يصدّق أنّ هناك من يرغب "بالسلام" على أنقاض المجازر؟!