في مثل هذه الأيام قبل عام، عاش لبنان واحدة من أفظع لحظات تاريخه المعاصر، حين انفجرت أجهزة النداء الصغيرة، المعروفة بالـ"بيجر"، في أيدي وأحزمة عشرات من عناصر وكوادر " حزب الله " بشكلٍ متزامن. لم يكن الأمر مجرد عملية اغتيال فردية أو استهداف محدود، بل مشهدًا دمويًا صادمًا طال مئات الأشخاص في وقت واحد، وأدى إلى سقوط أعداد هائلة من الشهداء والجرحى، بينهم كوادر قيادية وعناصر ميدانية أساسية.
لم تقتصر المأساة، التي يجمع المؤرخون على أنها غير مسبوقة في سجل الحروب الحديثة وربما في التاريخ، على حجم الخسائر البشرية، بل على رمزيتها أيضًا. فالبيجر، أداة الاتصال اليومية البسيطة، تحوّل في لحظة إلى سلاح قاتل. وهكذا دخل العالم في زمن جديد من الحروب السيبرانية-التقنية، حيث لم يعد التفجير مرتبطًا بصاروخ أو طائرة مسيّرة، بل بقطعة إلكترونية صغيرة حملها أصحابها بثقة قبل أن تنقلب ضدهم.
هذه الحادثة لم تُسجَّل فقط كأكبر استهداف جماعي لـ"حزب الله" في تاريخه، بل اعتُبرت أيضًا الشرارة التي دفعت البلاد نحو الحرب الدموية المفتوحة مع
إسرائيل . فقد أعادت خلط الأوراق الأمنية والعسكرية والسياسية في لبنان والمنطقة، ورسّخت قناعة لدى كثيرين بأن مرحلة ما بعد "البيجر" لن تشبه ما قبلها. والسؤال الذي يُطرح: أين كان "حزب الله" قبل حادثة "البيجر"، وأين أصبح اليوم؟ وهل يمكن القول إنّه استعاد بعد عام شيئًا من التوازن؟
حدث غير مسبوق
وقع الانفجار المفاجئ لأجهزة البيجر في أكثر من منطقة لبنانية في الوقت نفسه، فحوّل المشهد إلى كارثة وطنية كان عصيًا على كثيرين استيعابها في الوهلة الأولى. وكانت الصور الأولى التي انتشرت عبر الإعلام ومواقع التواصل كافية لتعكس حجم الصدم: عناصر متساقطون، جثث متفحّمة، وأصوات ذهول لم تفهم بدايةً ما الذي انفجر بالضبط، ولا كيف يمكن لأجهزة تواصل شخصية أن تتحوّل إلى أدوات قتل جماعي.
على المستوى التنظيمي، كانت الضربة قاسية جدًا. فقد خسر الحزب دفعة واحدة عددًا كبيرًا من الكوادر الميدانية والتقنية؛ منهم من استشهد، ومنهم من أصيب أو شُلّت أطرافه أو فقد قدرته على النظر. أما بيئة الحزب الحاضنة، فقد عاشت بدورها صدمة كبيرة بعدما رأت في ما جرى خرقًا لأبسط قواعد الأمان. ولعلّ الأصعب كان الإحساس بفقدان الثقة في الوسائل الأمنية التي شكّلت لعقود جزءًا من سرّية الحزب وتفوّقه.
أما على المستوى الاستراتيجي، فكانت الخسائر أعمق من الأرقام، إذ وجد الحزب نفسه مضطرًا لإعادة هيكلة واسعة داخل أجهزته الأمنية والتنظيمية، واعتماد بدائل تقنية واتصالية جديدة. وقبل ذلك كلّه، واجه صدمة غير مسبوقة من صمت العالم على جريمة بهذا المستوى. وقد عكست إطلالة
الأمين العام السابق السيد الشهيد حسن نصر الله بعيد الحادثة، والتي كانت الأخيرة له، حجم الحزن والذهول الذي تركته هذه المأساة.
واقع الحزب بعد عام
اليوم، وبعد مرور عام على حادثة البيجر، يبدو الحزب في وضع مختلف لكنه غير منفصل عن آثار تلك الضربة. فالاغتيال اللاحق للأمين العام
السيد حسن نصر الله بعد أيام قليلة من الحادثة، والذي جاء بعد سلسلة من الاغتيالات طالت "رفاق دربه" من كبار القيادات في الحزب، وصولًا إلى انتقال القيادة إلى الشيخ نعيم
قاسم ، الذي لم يكن المرشح لخلافته، أظهرت أن التنظيم واجه سلسلة متواصلة من الصدمات التي اختبرت قدرته على الصمود.
انطلاقًا من ذلك، يسعى الحزب اليوم على المستوى الداخلي إلى إعادة تثبيت تماسكه عبر خطاب تعبوي يستحضر الحرب بكل فصولها كدليل على حجم "المؤامرة" التي تستهدفه. أما على المستوى العسكري والسياسي، فلا تزال التحديات كبيرة. فالحرب المفتوحة مع إسرائيل مستمرة، والضغوط الدولية تتصاعد، فيما
النقاش الداخلي حول سلاح الحزب يزداد حدّة، في ظلّ النقاش المتصاعد حول سحب السلاح، وحصره بيد الدولة.
وإذا كان صحيحًا أنّ حادثة البيجر كشفت هشاشة بعض البُنى الأمنية للحزب، فإنّها أيضًا أبرزت قدرته على امتصاص الضربات وإعادة التموضع بسرعة نسبية. فرغم الخسائر، لم يتراجع حضوره العسكري، بل واصل استخدام قدراته الصاروخية والعملياتية لإثبات أنّه ما زال لاعبًا رئيسيًا في المعادلة، حتى اتفاق وقف إطلاق النار. لكنّ الحزب الحاضر بقوة في المشهد السياسي، يواجه اليوم اختبارًا مفتوحًا، ربما يكون "الأخطر" بالنسبة إليه، منذ نشأته.
لم تكن حادثة البيجر مجرد عملية عسكرية أو تقنية معقّدة، بل لحظة فاصلة في تاريخ لبنان الحديث. هي الصدمة التي فجّرت الحرب، والجرح الذي لم يلتئم بعد عام على وقوعه. ومع مرور الذكرى الأولى، يبقى السؤال الأهم: هل استطاع "حزب الله" أن يتجاوز فعلًا آثار تلك اللحظة القاسية، أم أن البيجر ستظل الخط الفاصل بين مرحلة قوة متماسكة ومرحلة إعادة بناء شاقة؟
ما هو مؤكد أن ذكراها ستظل حيّة، ليس فقط في وجدان جمهور الحزب، بل أيضًا في حسابات خصومه وأعدائه الذين يدركون أن الضربة التي هزّت الحزب لم تكسره، لكنها بالتأكيد غيّرت الكثير من معادلاته.