في السنوات الأخيرة، لم تعد "العامية اللبنانية " مجرد لهجة محكية في الشارع أو وسيلة للتواصل العفوي بين الأهل والأصدقاء، بل بدأت تتخذ طريقها إلى مقاعد الدراسة الأكاديمية في عدد من الجامعات الأجنبية. هذه الظاهرة اللافتة تعكس اهتماماً متزايداً بالثقافة اللبنانية، وبالدور الذي تلعبه اللغة المحكية في رسم ملامح الهوية والانتماء.
في جامعات كبرى في
أوروبا وأميركا الشمالية، باتت أقسام الدراسات الشرقية والعربية تقدّم مقررات متخصّصة في "العامية اللبنانية"، إلى جانب اللغة العربية الفصحى. ويؤكد الأساتذة الذين يشرفون على هذه البرامج أنّ الطلب على تعلّم العامية يزداد بشكل ملحوظ، خصوصاً لدى الطلاب الذين يهتمون بالموسيقى والفنون والإعلام العربي. فالأغاني اللبنانية، والمسلسلات، وحتى مقاطع الكوميديا القصيرة على منصات التواصل، صارت مدخلاً للطلاب الأجانب للتعرّف على
لبنان عبر لغته اليومية.
تقول البروفيسورة سارة وينتر من جامعة كولومبيا: "طلابنا يكتشفون أنّ العامية اللبنانية مليئة بالتعابير الملونة والتراكيب المرنة، ما يجعل التعلم أكثر حيوية من مجرد دراسة النصوص الكلاسيكية."
ويضيف الطالب
البريطاني جايمس هايد: "أحببت تعلم العامية لأنها تمنحني نافذة حقيقية على الحياة اليومية في
بيروت ، بعيداً عن الأخبار أو الكتب الأكاديمية".
وفي لبنان، تُقدّم الجامعة الأميركية في بيروت على سبيل المثال، برنامجاً صيفياً لمدة سبعة أسابيع في "اللغة العربية العامية اللبنانية" بمستويات تمهيدية ومتوسطة ومتقدمة. يركز البرنامج على تطوير مهارات التحدث والاستماع وبناء الكفاءة الثقافية، ويمنح الطلاب 9 ساعات معتمدة يمكن تحويلها إلى مؤسساتهم التعليمية .
كما توفر منصة "Study Arabic Online" دورات تفاعلية في "العامية اللبنانية" طوال العام، مع منهج منظم يُسمى "العامية اللبنانية من البداية"، ويشمل مستويات من المبتدئين إلى المتقدمين، مما يتيح للمتعلمين من كل أنحاء العالم فرصة تعلم اللهجة اللبنانية عن بُعد.
اللافت أنّ بعض الجامعات لا تكتفي بتعليم أساسيات المحادثة باللهجة اللبنانية، بل توسّع الدرس ليشمل السياق الثقافي والاجتماعي. فالعامية لا تُفهم بمعزل عن خلفيتها، إذ تعبّر عن تنوّع جغرافي وطائفي وثقافي قلّ نظيره في المنطقة، وهذا ما يجعلها بالنسبة للطلاب مادة غنية لدراسة التفاعل بين اللغة والهوية، وبين التعبير الشفهي والذاكرة الجماعية.
ويشير الباحث اللغوي الفرنسي جان كلود دوبوا إلى أن "العامية اللبنانية مثال رائع على كيف يمكن للهجات أن تكون جسوراً لفهم ثقافة بلد".
من جهة أخرى، لا يخلو الأمر من نقاش داخلي في لبنان حول مكانة اللهجة. فبينما يعتبرها البعض تهديداً للفصحى، يرى آخرون أنّها عنصر ثراء ثقافي يمكن تصديره. وتجربة الجامعات الأجنبية تُظهر أنّ تدريس العامية لا يتعارض مع الاهتمام بالفصحى، بل قد يشكّل جسراً إليها، إذ يبدأ الطالب باللهجة اليومية ثم يتدرج نحو النصوص الكلاسيكية.
لم تعد العامية اللبنانية إذن حكراً على المقاهي والبيوت والشوارع، بل صارت جزءاً من قاعات الدرس في جامعات عريقة. فلبنان، رغم أزماته المتلاحقة، لا يزال يملك الكثير مما يقدّمه للعالم من خلال لغته وثقافته.