في زاوية بقالة صغيرة في بيروت ، تتدلى بطاقة خضراء كتب عليها بخط عريض "Tether Accepted Here". يمدُّ أحد الزبائن هاتفه إلى "الكاشير"، يمسح رمزًا سريعًا، ويغادر حاملاً كيس خبز وبعض المعلبات، كل ذلك من دون ليرة واحدة، ومن دون ورقة دولار. إنها لحظة عابرة تكشف تحوّلاً هادئًا في خضم"اقتصاد الكاش" الذي لا يزال يسيطر على لبنان بشكل واسع جدًا، لكن هذه السيطرة، التي أدخلت لبنان إلى اللائحة السوداء ماليا، لا تخفي أهمية العملات المستقرّة، التي دخلت رسميًا إلى عادات الشراء اليومية في لبنان.*
وفق أحدث تقديرات شركات التحليل الرقمي، نما استخدام العملات المشفَّرة في لبنان 120 في المئة خلال عام واحد، وهو ثاني أعلى معدل في
الشرق الأوسط بعد
تركيا . ويتوقع تقرير AInvest أن يتخطى عدد المستخدمين المحليين 430 ألف شخص بحلول عام 2026، في سوق سيقترب دخله هذا العام من سبعة ملايين دولار. لا يتطلب الأمر جولة طويلة لاكتشاف المشهد الجديد. على "إنستغرام" تنتشر صفحات مقاهٍ وبقالات في بيروت والضواحي تعلن "We Accept USDT"، بينما يؤكد عدد من أصحاب المتاجر أن نحو 30 في المئة من العمليات اليومية تتمّ بعملات مستقرة. والامر لا يقتصر على الزبائن فقط، إذ يتم التعامل أيضا مع الموردين اليوم، بالدولار الرقمي، الذي ينهي العملية بسرعة، دون حاجة إلى صراف، أو البحث عن دولار.
لماذا الانجذاب إلى USDT؟
حسب خبير اقتصادي تواصل معه "
لبنان24 "، فقد أشار إلى أنّ هذه العملية الآخذة في التزايد منذ بداية هذا العام، خاصة خلال الحرب، انجذب إليها العدد الأكبر من المواطنين وذلك لعدة اسباب أهمها، سهولة التصفية، حيث يرسل التاجر ما جمعه إلى وسيط محلّي يحوّل الـUSDT إلى دولارات ورقية نقداً، بعمولة متواضعة، أو يشتري بها سلعة مستورَدة يدفع ثمنها بالعملات الرقمية. ذلك بالاضافة إلى سرعة العملية وتقليل الاحتكاك، إذ إنّ الدفع يتم بلا لمس أوراق ولا عدّ فكة نقدية؛ هذه ميزة يقيّمها أصحاب البقالات خلال أوقات الذروة. والعامل الأهم حسب
الخبير الاقتصادي ، هو ثقة الجيل الشاب، إذ إنّ شريحة واسعة من مستخدمي العملات المستقرة هي من العاملين في المهن الحرة، الذين يتقاضون أجورهم على منصّات عالمية بعملة USDT، يفضّلون إنفاق ما يملكونه مباشرة بدلاً من تحويله عبر قنوات مصرفية شحيحة أو مكلِفة.
مصرف لبنان يمنع المصارف التقليدية من التعامل بالعملات المشفّرة، لكن الحظر لا يشمل التبادل النقدي المباشر بين الأفراد أو الشركات الصغيرة. وهكذا نشأ اقتصاد "بين
الرمادي والأخضر": تحويلات تجري غالباً عبر مجموعات "تيليغرام" و bot تبادل، ثم تترجَم في محلّ بقالة أو مقهى مستقل.
ليبقى النشاط
تحت السيطرة ، يطالب بعض الخبراء بإطار تنظيمي خفيف يُلزم المتاجر بتسجيل محفظتها لدى هيئة رسمية. فالإغلاق التام أو التضييق، سيعيد المستخدمين إلى الظلّ، بينما التنظيم الذكي يستطيع فرض ضريبة عادلة ومكافحة أي شبهة غسل أموال.
مشهد البقالة في بيروت ليس استثناءً، بل علامة على أن "البلوكشين" خرج من شاشات المتداولين ودخل سلّة الغذاء. المشتريات لا تقتصر على الوجبات الخفيفة؛ بعض مورّدي الجملة باتوا يقبلون USDT لفواتير الأجبان أو اللحوم المبرَّدة، مستفيدين من سرعة التسوية وخفض المخاطر المرتبطة بنقل النقد.
يبقى السؤال: هل يستمر الزخم؟ يبدو أن الجواب رهن مسارَيْن متوازيَيْن: قدرة السلطات على تقديم إطار يوازن بين الابتكار والحماية، واستعداد التجار الصغار على تبنّي أنظمة محاسبة تتعامل مع الأصول الرقمية بشفافية. إلى ذلك الحين، سيواصل سكان الأحياء استخدام هواتفهم للدفع مقابل الرغيف والعلبة المعدنية… في تجربة تُذكّر بأن النقود، مثل كل شيء آخر، باتت تتحرك بسرعة الضوء، وأحياناً بسرعة لمس شاشة واحدة.