في بلدٍ تتداخل فيه السياسة بالاقتصاد، والعدالة بالمصالح العقارية، شكّلت العلاقة الشائكة بين المستأجرين والمؤجرين للأماكن غير السكنية واحدة من أكثر الملفات حساسية وتعقيدًا في العقدين الأخيرين. اليوم، وبعد سنوات من المراجعات والنزاعات والطعون، أعلن المجلس الدستوري اللبناني نهاية هذه المعركة الطويلة، بإصداره قرارًا برد الطعن المقدم بقانون الإيجارات غير السكنية، مؤكدًا دستوريته، ومانحًا أصحاب الأملاك اليد الطولى بعد سنوات من الجمود القضائي والتشريعي. لم يكن هذا النزاع مجرّد خلاف قانوني على عقود إيجار قديمة، بل صراعًا بين من يعتبر الملكية حقًا مقدسًا يجب أن يُستعاد، ومن يعتبر البقاء في المحال والمكاتب والأبنية المؤجرة ضرورة اقتصادية واجتماعية في ظل انهيار شامل. وفي قلب هذا النزاع، تمترس أصحاب الملك خلف مبدأ العدالة العقارية، معتبرين أن تأجير محل تجاري في وسط
بيروت بـ200 ألف ليرة سنويًا، بينما تؤجَّر محال مشابهة على بُعد أمتار بمئات الدولارات شهريًا، هو أمر لا ينسجم لا مع العدالة، ولا مع منطق السوق، ولا مع الكرامة الاقتصادية للمالك.
لكن ما كان مستحيلًا في الأمس، أقرّه المجلس الدستوري اليوم، واضعًا حدًا لمرحلة طويلة من النزاعات والتأجيلات، إذ اعتبر أن القانون المنشور في الجريدة الرسمية بتاريخ 12 حزيران 2025 دستوري بالكامل، رافضًا الطعن المقدم من عشرة نواب حاولوا إعادة فتح النقاش القانوني مجددًا. واللافت أن هذا القانون هو نفسه الذي سبق أن وقّعه رئيس الجمهورية، وأُعيد نشره احترامًا للقرار الأول للمجلس، ما يعني أن الغطاء السياسي والدستوري بات محكمًا لصالح المؤجّرين. بقرار المجلس، يكون أصحاب الأملاك قد استعادوا المبادرة. فهم الذين خاضوا لسنوات معركة في وجه ما وصفوه "بمصادرة الملكية تحت غطاء القانون القديم"، ونجحوا أخيرًا في فرض معادلة جديدة تُمكّنهم إما من استرداد ملكهم أو من تعديل بدلات الإيجار بما يتناسب مع الواقع النقدي والاقتصادي الجديد في البلاد. ومع هذا القرار، تُطوى صفحة قانونية شائكة، لكن تُفتح في المقابل صفحة جديدة من التحديات الاجتماعية والاقتصادية، قد لا تقلّ تعقيدًا، خاصةً في ما يتعلق بمصير المستأجرين القدامى الذين باتوا أمام خيارات ضيّقة: الإخلاء، أو التفاوض، أو الدخول في نزاع جديد لكن بشروط قانونية أقل مرونة.
"لبنان24" تواصل مع رئيس نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجرة باتريك رزق الله، الذي رحّب بالقرار، معلنا دستوريته بعد قرار المجلس الدستوري، مؤكدًا أن القانون كان نافذًا أصلا، مشيرًا إلى أنّ كل ما قيل عن أنّ هذا القانون غير دستوري سقط اليوم مع قرار المجلس، معتبرا أنّ مجلسي النواب والدستوري قد أنصفا المالكين إذ إنّنا اليوم على طريق توحيد الإيجارات في
لبنان ، وتحرير الايجارات القديمة، وهذا ما من شأنه أن يعيد التوازن ما بين المالكين والمستأجرين عبر مروحة واسعة من الخيارات، لافتا إلى وجود آليات متعددة للتفاهم بين المالكين والمستأجرين.
وأضاف رزق الله لـ"لبنان24"، قائلا أنّ " قرار المجلس الدستوري "يشكّل محطة مفصلية على طريق تصحيح العلاقة التأجيرية"، معتبرًا أنه "بعد أكثر من أربعين سنة من القوانين الاستثنائية التي كرّست الظلم على المالكين، جاء هذا القرار ليُعيد التوازن المفقود ويكرّس مبدأ العدالة والإنصاف، لا سيّما في ما يتصل بحق الملكية والمساواة أمام القانون.. هذا القانون هو تسوية عادلة وطويلة الأمد، ولا يجوز إعادة فتح النقاش حول تعديله مجددًا. ما تحقق اليوم هو انتصار للمنطق القانوني والحقوقي، ونحن نرفض أي محاولة للعودة إلى الوراء". وتابع: "ندعو جميع الأطراف المعنية إلى احترام القانون وتطبيقه، لأننا نؤمن أن عدالة الإيجارات لا يمكن أن تستقيم إلا من خلال تطبيق نصوص واضحة تحفظ حق المالك كما تحفظ حق المستأجر، ولكن من دون استمرار الظلم التاريخي الذي دفع ثمنه المالكون لسنوات طويلة".
ووفق القانون يتم احتساب بدل المثل بنسبة 8% من قيمة المأجور إذا كان خاليا، مع احتساب زيادات تدريجية لمدة 4 سنوات تبدأ بـ 25% من قيمة بدل المثل في السنة الأولى، و50% في السنتين الثانية والثالثة، و100% في السنة الرابعة. ويحق للمالك التنازل عن الزيادات التدريجية على بدلات الإيجار، ويسترد المأجور خلال فترة عامين.
في ضوء قرار المجلس الدستوري الأخير، يصبح من العبث العودة إلى طرح تعديلات جديدة على قانون الإيجارات للأماكن غير السكنية، الذي مرّ عبر كل مراحل النقاش الدستوري والبرلماني، ونال موافقة لجنة المال والموازنة، وخرج من مجلس النواب بثقة واضحة، حيث سقطت كل محاولات تعديله في الجلسة التشريعية الأخيرة. القانون لم يكن ارتجالًا، بل جاء نتيجة مسار طويل من التفاوض والدراسة القانونية، ويشكّل اليوم خطوة أساسية على طريق تصحيح العلاقة التأجيرية وتوحيد القوانين بين القديم والجديد، خصوصًا إذا ما علمنا أن هناك نحو 25,900 مأجور كانت خاضعة لنظام الإيجارات القديمة، مقابل 89ألف مأجور خاضع للإيجارات الجديدة، ما يعكس حجم الفجوة القانونية والاقتصادية التي طال أمدها.
في العمق، لا يمكن فصل هذه المعركة عن مبدأ حرية التعاقد الذي يُفترض أن يكون حجر الأساس في أي علاقة تأجيرية. فكما تُصحّح الأجور دوريًا وفقًا لمتغيرات السوق، من الطبيعي والمنطقي أن تخضع الإيجارات بدورها للتصحيح والتحديث. استمرار العمل بعقود مجمدة منذ عقود، في ظل انهيارات نقدية واقتصادية متلاحقة، لا يُعدّ فقط ظلمًا فادحًا للمالكين، بل خروجًا على قواعد العدالة والمساواة أمام القانون.
الرضوخ لمحاولات بعض الجهات التجارية المتنفّذة لإبقاء الوضع الراهن، لا يمكن قراءته إلا كاستمرار لنهج التواطؤ ضد الملكية الخاصة، وهو إهانة موصوفة لهيبة الدولة التي عجزت طوال أربعين عامًا عن تصحيح هذا الخلل الفاضح. أما اليوم، وبعد أن قال المجلس النيابي كلمته، وأكّد المجلس الدستوري دستورية القانون، لم يعد هناك مبرر قانوني ولا أخلاقي لتجميد حقوق آلاف المالكين، الذين انتظروا طويلًا هذا النوع من التصحيح التشريعي المتأخر.