مع نهاية كل شهر، تبدأ رحلة الترقب والانتظار، تكثر الهمسات بين الزملاء في مكاتب العمل، ويصبح السؤال المعتاد: "نزل الراتب؟". وحين تصل الرسالة المنتظرة من البنك، معلنة أن الراتب قد أُودع أخيراً في الحساب، تتغير ملامح الموظف، تعود إليه ابتسامته، ويتنفس بعمق كأن عبئًا ثقيلاً قد أُزيح عن صدره.
مع بداية كل شهر، يعيش الموظف لحظات من الفرح والحماس، فالرصيد البنكي امتلأ من جديد، والخطط تبدأ: تسوّق، قهوة فاخرة، عشاء مع الأصدقاء. لكن، شيئاً فشيئاً، يبدأ الشعور بالقلق. منتصف الشهر تصبح الحسابات أكثر دقة، وبنهاية الشهر قد يضطر البعض إلى الاقتراض أو الاكتفاء بما تبقّى.
أشار أحمد حويلا موظف في شركة تقنية إلى "أن عندما أستلم راتبي في بداية الشهر، أشعر أن كل الأمور ممكنة. أذهب للتسوق، وحتى أحياناً أشتري أشياء لا أحتاجها".
وأفاد حويلا "بإن المشكلة أنني لا أضع ميزانية دقيقة. أظن أن الراتب يكفيني طوال الشهر، ثم أُفاجأ أنني صرفت أكثر مما ينبغي خلال أول أسبوع".
وتابع "أن منتصف الشهر دائماً يمثل نقطة تحول. أبدأ بالقلق، وأحاول تقليل الإنفاق. في بعض الأحيان أضطر للاستدانة من زملائي لتغطية نفقات طارئة".
وقال حويلا: "أعتقد أن الشركات يجب أن تعطي الموظفين دورات في الإدارة المالية، فهذا شيء لا يُعلَّم في المدارس ولا الجامعات، ولكنه يؤثر على حياتنا اليومية بشكل مباشر".
وأكدت منى حسن معلمة في مدرسة خاصة "أن الراتب بالنسبة لي هو شريان حياة، لكنه للأسف لا يكاد يكفي الضروريات. بداية الشهر أدفع الإيجار وفواتير الكهرباء والماء، ثم يتبقى القليل جدًا".
وتابعت: "أحياناً لا أملك رفاهية التسوق، كل قرش محسوب. أشعر أني أعمل بجهد كبير، ولكن العائد لا يتناسب مع التضحية".
أضافت: "أنا مؤمنة بضرورة التخطيط المالي، لكن عندما لا يكون الدخل كافياً، يصبح التخطيط أمراً نظرياً فقط".
ولفتت الى "أن أتمنى من أصحاب العمل أن ينظروا إلى الموظف كإنسان لديه حياة ومسؤوليات، وليس مجرد أداة أداء".
وقال سامي
عبد الرحمن موظف مبيعات في
شركة تجارية : “أنا أعيش هذا السيناريو الشهري منذ أكثر من عشر سنوات. البداية دائماً مفعمة بالحيوية، والنهاية مثقلة بالحسابات".
وأشار الى "أن عندما أقبض راتبي، أقوم فوراً بتسديد القروض والفواتير. يبقى القليل، أحاول أن أعيش به بقية الشهر، وغالباً ما أفشل".
وشدد على أن "الأمر ليس فقط مادّياً، بل نفسي أيضاً. القلق من نفاد المال يؤثر على إنتاجيتي في العمل، وعلى علاقتي بأسرتي".
وتابع: "كنت أتمنى لو يتم تقسيم الراتب إلى دفعتين في الشهر، بحيث يُصرف جزء في أول الشهر، وجزء في منتصفه، لتخفيف الضغط".
في هذا السياق، قال محمد زكور مدير في شركة ادوات كهربائية إن "نحن في قسم الموارد البشرية نتابع بشكل دائم أوضاع الموظفين، وقد لاحظنا فعلاً أن هناك نمطاً متكرراً من الضغط المالي يتصاعد مع تقدم أيام الشهر".
وأشار زكور الى "أن نحاول تقديم برامج توعية مالية للموظفين، منها ورش عمل حول الميزانية الشخصية والادخار الذكي".
وأوضح "أن أدرك تمامًا أن الراتب قد لا يكون كافياً في بعض الحالات، لذلك نحاول دعم الموظفين من خلال نظام الحوافز والمكافآت الشهرية".
واعتبر زكور أن "في النهاية، الموظف الذي يشعر بالاستقرار المالي يكون أكثر قدرة على العطاء، وأكثر ولاءً للمؤسسة".
لماذا يعيش الموظف هذه
الدورة كل شهر؟
الرحلة التي يعيشها الموظف من الفرح في أول الشهر إلى القلق في آخره ليست مصادفة، بل هي نتيجة طبيعية لتراكم عدة عوامل اقتصادية واجتماعية ونفسية. ويمكن تلخيص أبرز أسباب هذه الدورة الشهرية المتكررة على النحو الآتي:
. غياب التخطيط المالي الشخصي: الكثير من الموظفين لا يضعون خطة واضحة لكيفية إنفاق الراتب. فيغلب عليهم الإنفاق العاطفي فور استلام الراتب، دون دراسة للاحتياجات الأساسية أو أولويات الشهر.
. الرواتب المحدودة وارتفاع تكاليف المعيشة: في بعض القطاعات، لا تتناسب الرواتب مع حجم المصروفات والالتزامات التي تفرضها الحياة اليومية. الإيجار، الفواتير، التعليم، النقل، والاحتياجات الأساسية، كلها تستنزف الراتب بسرعة، خاصة في ظل التضخم وغلاء الأسعار.
. الديون والالتزامات المسبقة: كثير من الموظفين يدخلون في التزامات طويلة الأمد مثل قروض السيارات، أقساط السكن، أو حتى ديون شخصية. وبما أن جزءاً كبيراً من الراتب يُستقطع فورًا لتسديد هذه الالتزامات، يبقى القليل لتغطية باقي الشهر.
. غياب الدعم المؤسسي والاستقرار المالي: ليست كل المؤسسات تقدّم بيئة مالية داعمة لموظفيها. فقلة الحوافز، وعدم وجود مساعدات طارئة أو برامج ادخار، تزيد من هشاشة الوضع المالي للموظف. كما أن عدم انتظام الرواتب أو تأخيرها يُفاقم المشكلة.
. ضغط المجتمع وثقافة الاستهلاك: في بعض المجتمعات، هناك ضغوط اجتماعية تدفع الفرد للإنفاق على الكماليات، أو مجاراة نمط حياة لا يتناسب مع دخله الحقيقي. شبكات التواصل الاجتماعي، على سبيل المثال، تروّج لأسلوب حياة قائم على الإنفاق والتباهي، مما يرهق الميزانيات المحدودة.
هذه الأسباب مجتمعة تضع الموظف في دوّامة تتكرر كل شهر: بداية مريحة، منتصف مشوّش، ونهاية مرهقة مادياً ونفسيًاً. ومع غياب حلول جذرية أو آليات دعم فعالة، تبقى هذه الدورة عبئًا ثقيلًا يعانيه الموظف باستمرار.