(قصّة حقيقية) كان أحد الفلاحين من
منطقة البقاع يعمل في بستان أحد أغنياء المنطقة وكان يتمنى بأن يأتي إلى دفنه "كبار القوم"، وأن يترأس الصلاة الجنائزية أحد مطارنة المنطقة ليصلي على جثمانه.
من كان يستمع إليه كان يظّن أن الرجل يهذي، أو أنه يتمنى ما لا يمكن أن يتحقّق، وهو الفقير الذي يعيش في الظّل وبعيدًا عن الضوضاء والبهرجة و"الفخفخة" ومظاهر الرخاء والبحبوحة.
لكن الصدف شاءت أن يتوفى هذا الفلاح في اليوم ذاته الذي توفى فيه "البيك"، ونُقل جثمانهما إل برّاد المستشفى ذاتها. ويوم الدفن نُقلت الجثتان إلى كنيستين مختلفتين: الأولى يُطلق عليها اسم كاتدرائية. والثانية
كنيسة متواضعة وتكاد تكون منسية.
ومن كثرة "العجقة" بالنسبة إلى ناقلي جثة "البيك" تمّ نقل جثة الفلاح إلى الكاتدرائية الفخمة بدلًا من جثة "البيك"، التي نُقلت إلى الكنيسة المتواضعة.
في الكاتدرائية ترأس الصلاة الجنائزية راعي الأبرشية يحيط به أكثر من مطران وجميع "خوارنة" المنطقة. وحضر أيضًا "كبار القوم" من وزراء ونواب وفاعليات اجتماعية وإعلامية. فيما قام بالخدمة الجنائزية في الكنيسة المتواضعة "
خوري ختيار" كانت تربطه بـ "المرحوم" علاقة صداقة ومودّة. واقتصر الحضور على أفراد العائلة.
وفي نهاية الجناز تمّ رفع غطاء التابوت لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة على جثمان "البيك". وكانت الدهشة عظيمة حين اكتشف أبناء "البيك" بأن من جنزّه
المطارنة في حضور "كبار القوم" كان الفلاح، الذي نُقلت جثته بالغلط بدلًا من جثة والدهم، الذي صلّى عليه "
الخوري الختيار" وحده في الكنيسة المنسية.
وبسرعة انتقال النار في الهشيم انتقل الخبر إلى كل أرجاء المنطقة. واقتصرت التعليقات على الترّحم على الفلاح، الذي تحقّقت أمنيته، ليخلصوا إلى القول بأن البشر، أغنياء كانوا أم فقراء، متساوون في حضرة الموت، الذي لا يميز بين كبير وصغير، ولا بين عبقري وآخر أمّي. فكلاهما إلى التراب صائرون.
وهذا ما جاء في سورة
الرحمن "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ"، وهو تعبير لم يصل إلى مستواه من محاكاة الواقع
البشري الآيلة طبيعته إلى الزوال والفناء، سوى ما يقال في الطقس
الماروني يوم أثنين الرماد "أذكر يا انسان أنك من التراب وإلى التراب تعود".
وكذلك ما جاء في سفر "الجامعة" على لسان ابن دوواد الملك: "بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، بَاطِلُ الأَبَاطِيلِ، كُلُّ شَيْءٍ بَاطِلٌ. مَا الْفَائِدَةُ مِنْ كُلِّ تَعَبِ الإِنْسَانِ الَّذِي يَتْعَبُهُ تَحْتَ الشَّمْسِ. جِيلٌ يَمْضِي وَجِيلٌ يُقْبِلُ وَالأَرْضُ قَائِمَةٌ إِلَى الأَبَدِ. الشَّمْسُ تُشْرِقُ ثُمَّ تَغْرُبُ، مُسْرِعَةً إِلَى مَوْضِعِهَا الَّذِي مِنْهُ طَلَعَتْ. الرِّيحُ تَهُبُّ نَحْوَ الْجَنُوبِ، ثُمَّ تَلْتَفُّ صَوْبَ الشِّمَالِ. تَدُورُ حَوْلَ نَفْسِهَا وَلا تَلْبَثُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى مَسَارِهَا. جَمِيعُ الأَنْهَارِ تَصُبُّ فِي الْبَحْرِ، وَلَكِنَّ الْبَحْرَ لَا يَمْتَلِئُ، ثُمَّ تَرْجِعُ الْمِيَاهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ."
ففي صمتها وهي تودّع فلذة كبدها كانت السيدة فيروز تتكّلم أكثر مما تكّلم الآخرون، وقد أكثروا من الكلام، فيما كان المطلوب أمر واحد لا غير، وهو الصلاة عن روح زياد ليلقى وجه ربّه وهو يرنّم "كيرياليسون" كما لحّنها، أو "المجد لك أيها
المسيح ابن الله"، أو طوبى اللساعين إلى السلام فإنهم أبناء الله يُدعون".
في تلك اللحظات الصامتة والمعبّرة جال في بال سفيرتنا إلى النجوم كل لحظة قضتها مع زياد على مدى 69 سنة. الحزن كبير. والوجع أكبر. ولحظة الوداع أكبر من أي أمر آخر.
وهي تتفرّس في الوجوه، التي مرّت من أمام ناظريها، ومن وراء نظاراتها السوداء، كانت تردّد، تلك "الأم الحزينة"، و"حبيبي أي حال أنت فيه". وتزيد: "كل هذا مجد باطل لن يعيدني ولو للحظة واحدة إلى الوراء، وإلى ما قبل الساعة التاسعة من قبل ظهر يوم السبت في 26
تموز من العام 2025.