آخر الأخبار

رحل زياد… والفيلم الأميركي لا يزال طويلاً!

شارك
غيّب الموت اليوم أحد ابرز الوجوه التي شكّلت حالة ثقافية فريدة في العالم العربي. حيث رحل زياد الرحباني ، عن عمر ناهز السبعين عاماً. ومع رحيله، يطوى فصل استثنائي من الحكاية اللبنانية ، التي كتبها زياد على طريقته باللحن والكلمة وبالعبث الجارح الذي أصرّ على فضح الواقع فجعله دوماً تحت الضوء!

منذ ولادته في الأول من كانون الثاني 1956، بدا واضحاً أن زياد لن يشبه غيره. فهو ابن أسطورة الفنّ السيّدة فيروز والملحّن الكبير عاصي الرحباني ، غير أنه لم يقف يوماً في ظلّهما، بل اختار أن يفتح لنفسه نافذة خارج القصر الرحباني ، يرى من خلالها لبنان والناس بعين أخرى.

ولعل أولى ملامح هذه الخصوصية ظهرت باكراً، عندما كتب كلمات أغنية "سألوني الناس" ولحّنها في عمر السابعة عشرة، لتغنيها والدته على المسرح، خلال فترة مرض وغياب زوجها عاصي . ولم يكن زياد آنذاك مراهقاً يخطو أولى تجاربه، بل كان وجعاً ناضجاً في جسدٍ شاب، يختبر الفنّ كوسيلة بوح، ويحوّل الغياب إلى حضورٍ لا ينسى.

لكن الموهبة لم تقف عند عتبة التجربة. فسرعان ما اتخذ زياد موقفاً صدامياً من الواقع اللبناني، وانخرط في تفاصيله، وحوّل فنّه إلى مساحة مواجهة يومية مع الطائفية، الطبقية، الفساد، واللاعدالة. فقدّم أعمالاً مثل "نزل السرور" و"بالنسبة لبُكرا شو" و"فيلم أميركي طويل" و"شي فاشل" وسلسلة من النصوص التي سبقت زمنها بخطوات، حتى لتبدو اليوم وكأنها كُتبت على قياس الحاضر، لا على وقع المرحلة التي وُلِدت فيها.

وفي موازاة تجربته المسرحية، خاض زياد أيضاً مغامرة تجديد الأغنية الفيروزية، فدخل اليها من باب مختلف، لا لينقض ما قبله، بل ليكسره برفق. إذ تَركَ وراءه الصور المثالية والوجدانيات التي ميّزت مرحلة الأخوين رحباني، وقدّم لفيروز أغانٍ حضر فيها الإنسان المعاصر، الذي حمل صوتها إلى فضاءات أكثر مباشرة، حيث اختفى الخطاب الشاعري العام لتحلّ مكانه مفردة يومية، صادمة أحياناً، وعاطفية في أخرى ما أضاف الى مسيرة فيروز نوعاً جديداً من العفوية والصراحة بلغة قريبة جداً من نبض الناس.

ولم يكن الفن عند زياد مجرّد أدوات تعبير، بل كان موقفاً واضحاً من كل شيء. فهو لم يساوم يوماً على قناعاته السياسية، ولم يخجل من التصريح بميله اليساري، ولا من انتقاده اللاذع للسلطة، أو سُخرِيته من النظام الطائفي، أو انحيازه الثابت لمن يقفون في أسفل الهرم الاجتماعي، لا كأبطال ولا كضحايا، بل كأصل الحكاية وسبب وجودها.

وما ميّز زياد أيضاً، أنه لم يكن يبحث عن جمهورٍ يُصفّق له، بل عن جمهورٍ يُفكّر. إذ لم يكن من هواة التلميع أو المسايرة، بل كان يطارد المعنى حيثما اختبأ، ويختار دوماً أن يكون خارج الاصطفاف، حتى لو كلّفه ذلك عزلة طويلة، ولهذا بقي حضوره استثنائياً لأنه لم يكن وجهاً عابراً، بل شاهداً مزعجاً على العصر.

اليوم غاب الرجل الذي عاش حياته كما كتب مسرحيّاته بلا مقدّمات مصطنعة، وغادرها بلا نهايات مرتّبة. عاش كما أراد، حاداً حين ينبغي، وساخراً حين تصبح السخرية أشرف أشكال الاعتراض، ومخلصاً لنفسه حتى آخر وتَر. لم يكن فناناً عادياً، بل ظاهرة لبنانية نادرة، التقت فيها الموسيقى بالكلمة، واصطدم فيها العبث بالمعنى، ليصوغ من كل ذلك سيرةً فريدة لا تشبه أحداً. رحل زياد، لكن تلك العتمة الساخرة التي تركها في نصوصه ما زالت مضيئة بمرارة تشبهنا. رحل، ولا يزال عرض "فيلم اميركي طويل" مستمرّاً على "مسرحنا"!
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا