عاد
جورج
عبد الله إلى
لبنان بعد أكثر من أربعة عقود في السجون
الفرنسية . لكنّ خروجه لم يكن مجرّد حدث شخصي، بل لحظة محمّلة برمزية تتجاوز مسيرته الفردية، وتعيد طرح الأسئلة حول ثمن الالتزام، وحدود التنازلات الممكنة في ميزان السيادة والمواقف.
هذه العودة التي جاءت من دون ضجيج رسمي، أعادت إلى الواجهة شخصية ظلّت حاضرة في الوجدان الشعبي لشريحة واسعة من اللبنانيين، وغائبة عن الخطاب الرسمي لسنوات طويلة، رغم أن ملفه بقي على طاولة العلاقات
اللبنانية – الفرنسية، من دون أن يُقارَب يوماً بوصفه أولوية سيادية.
مصادر سياسية مطلعة على خلفيات هذا الغياب تشير إلى أن تجنّب أي استقبال رسمي لعبد الله لم يكن تفصيلاً عفوياً، بل نتيجة مباشرة لضغوط خارجية، أبرزها فرنسية، هدفت إلى منع أي توظيف سياسي لعملية الإفراج، خاصة أن
باريس بقيت لعقود ترفض إطلاق سراحه رغم انتهاء محكوميته منذ عام 1999. وبالتالي، فإن أي احتفاء رسمي به كان ليُفهم دولياً على أنه إدانة ضمنية للموقف الفرنسي، وهو ما حرصت
الدولة اللبنانية على تجنّبه.
من جهة موازية، برزت الاعتبارات الأميركية في خلفية المشهد لضبط رد الفعل اللبناني الرسمي، سيّما أن عبد الله كان قد أُدين بتهمة دعم فصائل مقاومة قامت بعمليات ضد أهداف أميركية وإسرائيلية. وفي ظلّ مناخ تفاوضي لبناني دقيق يرتبط بملفات حساسة، تتقاطع فيها وعود الدعم الدولي مع اشتراطات سياسية تتعلق بموقع لبنان الإقليمي، وخصوصاً في ما يتعلق بسلاح
المقاومة ، اختارت السلطة الصمت من باب التحوّط السياسي، خصوصاً أن عبد الله لا تنفصل رمزيته عن خيارات "محور المقاومة".
داخلياً، لا يخفى أن غياب الإجماع حول رمزية جورج عبد الله ساهم في تعزيز قرار الصمت. فالرجل الذي يُنظر إليه كمقاوم وطني من قبل شريحة واسعة من المجتمع اللبناني، لا يحظى بالموقف نفسه لدى أطراف سياسية أخرى تعتبر قضيته إشكالية، سواء بسبب ارتباطها بمحور المقاومة، أو لما تحمله من دلالات تتجاوز الساحة اللبنانية. ولعلّ هذا التباين في النظرة إلى شخصه وتاريخه حال دون تبني موقف موحّد، ودفع الدولة إلى
التزام ما يشبه الحياد السلبي.
في السياق ذاته، تؤكد المصادر أن التعامل مع قضية عبد الله لم يخرج عن السياق العام الذي يحكم سلوك لبنان الرسمي اليوم في الملفات السيادية، حيث تغيب المبادرة لحساب مقاربات حذرة، تحكمها الحسابات الخارجية أكثر من المصلحة الوطنية. وبالتالي، فإن غياب أي موقف رسمي واضح لم يكن نتيجة تقصير، بقدر ما كان تعبيراً عن موقع سياسي محدود التأثير، اختار الابتعاد تفادياً لأي كلفة دبلوماسية.
أما على المستوى الشعبي، فقد جاء الاستقبال كثيفاً وعفوياً، منظماً من خارج المؤسسات، ومدفوعاً بذاكرة طويلة من الوفاء لرجل صمد رغم مرور أكثر من أربعة عقود على سجنه. هذا التفاعل، وإن بقي في إطاره الشعبي، عكس حجم الرمزية التي لا تزال تحيط بجورج عبد الله في أوساط كثيرة داخل لبنان، وخصوصاً في البيئات المرتبطة بخيارات المقاومة.
في المقابل، تُطرح تساؤلات واقعية حول الوضع الأمني لجورج عبد الله بعد خروجه، خصوصاً في ظل الاستباحة الجوية
الإسرائيلية المستمرة، والاغتيالات التي تطال شخصيات تنتمي إلى بيئة المقاومة. ومع غياب التزامات رسمية بالحماية، يصبح من الطبيعي التساؤل عن الجهة التي تتحمل فعلياً مسؤولية تأمين سلامته. وتشير المصادر إلى أن البيئة السياسية والأمنية التي احتضنت قضيته طوال سنوات أسره، هي نفسها التي تتحرك اليوم لتوفير الحماية، في ظل فراغ رسمي واضح وعدم قدرة
الدولة على ضمان هذا النوع من الأمن الاستباقي.
لم تكن عودة جورج عبد الله مجرد محطة شخصية، بل لحظة سياسية بامتياز، أسقطت عنها الدولة الرسمية واجب الحضور تحت وطأة توازنات خارجية دقيقة. وبين ما مثّله المشهد من رمزية وما غاب عنه من موقف، بدا واضحاً حجم الارباك الرسمي في ظلّ ما اعتبرته المصادر مراعاة لحسابات خارجية باتت تتقدّم على أي اعتبارات سيادية أو رمزية.