لا شكّ في أن إسرائيل مصممة على أخذ المنطقة إلى مكان آخر منذ اليوم الأول الذي تلا عملية " طوفان الأقصى". بدأت بغزة، ثم انتقلت إلى لبنان . وبين تلك وذاك لم توفّر تل أبيب سوريا ، يوم كان بشار الأسد رئيسًا، ويوم تسلم أحمد الشرع السلطة.
ولم يكتفِ بنيامين نتنياهو بهذا القدر من العدائية تجاه هذا المثلث المرتبط في جزئياته بطهران، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما قرّر ضرب المفاعل النووية الايرانية. وفي كل هذه الحالات كان رئيس حكومة العدو يدفع
الولايات المتحدة الأميركية إلى التدّخل المباشر، والوقوف إلى جانب حليفتها الرئيسية في المنطقة. وهذا الانحياز الأميركي الانسيابي والتلقائي يأتي في أغلب الأوقات من خارج القناعات الأميركية كإطار عام. ومن بين الأمثلة الكثيرة التي تؤشّر إلى هذا الانحياز ما جرى في لبنان، وما يجري الآن في سوريا.
ففي لبنان، وعلى رغم تكرار واشنطن بأنها حريصة على الاستقرار العام فيه، لم تُظهر إدارة الرئيس
دونالد ترامب أي حماسة لاستكمال دعم رئيس الجمهورية العماد جوزاف
عون. وهذا التصرّف المعاكس لما كان عليه يوم قرّرت إنهاء حالة الفراغ الرئاسي جاء نتيجة الاختلاف في المقاربات بين ما كان قبل وما صار إليه الوضع بعد الانتخابات الرئاسية. فواشنطن تريد
القضاء على "
حزب الله " بأي ثمن حتى ولو كان هذا الأمر يهدّد السلم الأهلي في لبنان. وهذا ما تريده إسرائيل، وما تسعى إليه لتبرير احتلالها للتلال الخمس أولًا، ولتبرير ما تبديه من عنصرية تجاه الشعب الفلسطيني ثانيًا.
أمّا الرئيس عون، وعلى رغم أن خطاب القسم كان عالي السقف بالنسبة إلى موضوع حصرية السلاح، فقد وجد نفسه مضطّرًا لإعادة النظر في الأولويات بعدما أصبح رئيسًا لجمهورية كل لبنان. فالمقاربات بين الأمس واليوم تختلف باختلاف الزاوية، التي يتمّ من خلالها النظر إلى المواضيع الحسّاسة والدقيقة. فـ "بعبدا" من فوق غير ما هي عليه من تحت. وهذا ما خبره جميع الرؤساء الذين توالوا على الحكم، والتي عاكستهم الظروف، وحالت دون تحقيق ما كانوا يتطلعون إليه.
أمّا في سوريا، فإن تدّخل إسرائيل في حوادث السويداء لم يكن لمناصرة الدروز فيها كما حاول الاعلام
الإسرائيلي الإيحاء به، بل لزيادة الشرخ بين المكّونات الطائفية في سوريا. وبذلك أحرجت تل أبيب واشنطن مرّة جديدة، وهي التي كانت تسعى إلى دفع الرئاسة
السورية إلى تسوية رأى فيها نتنياهو أنها لا تصبّ في مصلحته على المدى
الطويل . وقد تكون المحادثات
الإسرائيلية – السورية في أذربيجان قد كشفت ما لم تكن تل أبيب مهيأة له بعد.
فإسرائيل التي لا تزال تحتل أجزاء واسعة من الأراضي
اللبنانية الجنوبية، ولا تزال تواصل اعتداءاتها على أهداف تعتبر أنها تشكّل خطرًا على أمنها الداخلي، لا يناسبها كثيرًا أن يكون لبنان مستقرًّا. فهي تحاول أن تدفع واشنطن إلى اتخاذ خطوات متقدّمة لنزع سلاح "حزب الله"، الذي لن يسّلمه إلاّ إذا حصل في المقابل على ما يوازي هذه الخطوة من مكاسب سياسية ومن ضمانات لا تزال غير متوافرة حتى الآن.
فما جاء في الجواب الأميركي ردًّا على الورقة اللبنانية لا يدعو كثيرًا إلى الاطمئنان بالنسبة إلى "حارة حريك"، خصوصًا لجهة تحديد المهلة الزمنية لعملية تسليم أو نزع السلاح، وهما وجهان لعملة واحدة من وجهة نظر "حزب الله".
فالردّ اللبناني الرسمي على الجواب الأميركي، والذي كان مضمونه محور اللقاء بين الرئيسين عون ونبيه بري، لن يكون سهلًا هذه المرّة. فتوم برّاك العائد إلى
بيروت مطلع الأسبوع ينتظر ما يمكن اعتباره تسليمًا بالأمر الواقع لجهة المهلة المعطاة للبنان لحسم موضوع سلاح "حزب الله" مقابل خطوات متوازية من قِبل إسرائيل.
فإسرائيل، كما هو واضح، لا تريد أن تأكل عنبًا فقط، بل تريد أن تقتل الناطور في الوقت ذاته. وهذا ما يدعو لبنان، ومن خلفه "حزب الله" الموكِل أمره إلى الرئيس بري، إلى الريبة والخشية مما يُخطََّط له في الأروقة الإسرائيلية.