ما قلناه بالأمس عن فرضيات رئيس الحكومة غير الواقعية ينطبق على كل القوى السياسية ، من صغيرهم إلى كبيرهم. فلا همّ الا المزايدات والشعبوية لدى هذه الحكومة الممثلة بأغلبية هذه القوى باستثناء مكّون واحد استبعد عن هذه التركيبة لأسباب لها علاقة بتاريخ هذا المكّون، الذي ساهم مع غيره على مدى سنوات في تغطية السموات بالقبوات، ولم يقدم على أي مشروع لم يكن له منه استفادة مباشرة أو غير مباشرة. وقد يكون ما يعانيه المواطنون اليوم من شحّ في المياه نتيجة عوامل طبيعية كان من الممكن تفادي كوارثها لو أحسن هذا الفريق السياسي، الذي أسند إلى نفسه وزارة الطاقة والمياه على مدى سنوات طويلة، ولم يفلح سوى بتربيح الناس الجميل عندما أقام سدودًا مثقوبة، فلم تمتلئ سوى جيوب المنتفعين، وبقي الشحّ "ضارب طنابو".
ويدخل على باب المزايدات الشعبوية، التي أشبعنا منها أمس الأول رئيس حكومة "الإصلاح والإنقاذ"، وزراء ينتمون إلى هذه الطغمة السياسية، التي لا همّ لها اليوم سوى أن تراكم عدد نوابها في الانتخابات النيابية المقبلة، أو بالحدّ الأدنى المحافظة على الرقم، الذي وصلت إليه، حتى ولو كان ذلك على حساب المبادئ، التي بللناها وشربنا من مائها. فيتوسلون أقصى درجات الشعبوية عبر محاولات رخيصة لكسب ودّ المواطنين، الذين يبدو أنهم لم يتعظوا بعد مما لحق بهم نتيجة ممارسات خاطئة لأكثرية هذه القوى السياسية الممثلة اليوم في الحكومة الحالية، التي لم تستطع أن تتخذ قرارًا واحدًا صائبًا من شأنه أن يرتدّ بالنفع العام على جميع المواطنين على حدّ سواء. والأنكى من هذا أنها لا تستطيع أن تدافع عن قرار سبق لها أن اتخذته لصالح الخزينة العامة، لكنها تراجعت عنه لأسباب شعبوية.
ففي غفلة من الزمن المتهالك رضخت الحكومة لضغط شعبي قامت به نقابات مسيسة ولم تدرج على جدول أعمال جلسة أمس بند الضريبة، التي فرضت على المحروقات، وهي ضريبة قد تكون محقة أو غير محقة، لكنها تصبح في حكم الضرورة عندما تصدر عن الحكومة باجماع وزرائها، الذين يعانون الأمرّين في وزارتهم نتيجة ما يسمى بـ "عصر النفقات". أمّا
التراجع عن هكذا قرار بداعي الحفاظ على شعبيوية الحكومة فإن ينبئ ببداية السقوط. لأن الذي لا يستطيع اليوم أن يدافع عن قرار صغير كمثل هكذا قرار يعود بالنفع على الخزينة العامة، لن يستطيع غدًا أن يحمي أي قرار له طابع سيادي كقرار حصرية السلاح بأيدي القوى العسكرية الشرعية وحدها دون غيرها من قوى الأمر الواقع. ومن لا يقدر على القليل لن يقدر حتمًا على الكثير.
كان على الحكومة أن تدافع عن قرارها الصادر عنها عن قناعة وطنية، وكان عليها ألا تستجيب لضغط الشارع، وهي تعرف أكثر منه أهمية أن يدخل إلى الخزينة شبه الخاوية إيرادات لا تكفي حتى لدفع رواتب الموظفين المدنيين والعسكريين، وهي رواتب متواضعة نسبيًا.
قد يكون الذين طالبوا بإبطال مفعول هذا القرار محقين لجهة أن المواطن لم يعد قادرًا على الاحتمال حتى ولو كانت هذه الزيادة على المحروقات زهيدة، ولكن من هم على غير حق هم وزراء في حكومة تدّعي أنها سيدة قراراتها، كما جاء في كلمة رئيسها في ردّه على مداخلات النواب، فيتراجعوا عن قرار متخذ عن سابق تصوّر وتصميم نتيجة تعرّضهم لحملات هي أشبه بالحملات، التي تعرّض لها المحقق العدلي في انفجار المرفأ فلم يلن ولم يستكن، لأنه بكل بساطة هو سيد قراره ويرفض أن يملي عليه الآخرون ما يفرضه عليه ضميره وواجبه الوطني والمهني القيام به، غير آبه لتهديد من هنا أو وعيد من هناك.