آخر الأخبار

تصريحات توم براك الجدليّة... رسائل أميركية مشفّرة إلى الداخل اللبناني

شارك
أثارت تصريحات الموفد الأميركي إلى بيروت ، توم براك، في مقابلة صحافية قبل أيام، جدلاً واسعًا في الأوساط السياسية اللبنانية ، بعدما ألمح فيها إلى أن لبنان إذا لم "يسرع وينضبط" فقد يجد نفسه "جزءاً من بلاد الشام"، في إشارة رمزية فُهمت على نطاق واسع على أنها دعوة مبطّنة لاحتذاء النموذج السوري الحالي، والإسراع بعملية نزع السلاح، بما يسمح بالالتحاق بمشروع التسويات الإقليمية الجارية.

وعلى الرغم من أن براك عاد لاحقًا ليُصدر توضيحًا عبر منصة "إكس" قال فيه إن تصريحه "كان في سياق الإشادة بما أنجزته سوريا "، ولم يقصد منه "تهديد لبنان"، فإن وقع كلامه الأوّل كان قد سبق التوضيح، وأثار سلسلة تساؤلات حول الخلفيات والدلالات والتوقيت، ولا سيما أنّه جاء بعد زيارته الأخيرة إلى لبنان، والتي خلّف خلالها انطباعًا إيجابيًا، فهمه البعض على أنه "مرونة أميركية" في التعامل مع ملف السلاح، بل مع " حزب الله " بالمُطلَق.

ردود الفعل السياسية بدت محدودة نسبيًا، ومتواضعة إن صحّ التعبير، باستثناء موقف "حزب الله" على لسان النائب إبراهيم الموسوي، الذي وصف كلام براك بأنه "انتهاك صارخ للسيادة اللبنانية"، داعياً إلى استدعاء السفيرة الأميركية وإبلاغها رسالة احتجاج رسمية، فيما حاولت قوى أخرى التخفيف من أهمية التصريحات، خصوصًا أنها غير رسمية، فكيف يُفهَم هذا الخطاب الأميركي، وهل يندرج ضمن سياسة الضغوط القصوى على لبنان؟

رسائل سياسية ودلالات رمزية

لم تكن تصريحات الموفد الأميركي توم براك مجرّد زلة لسان أو توصيفًا تقنيًا لمسارٍ تفاوضي، حتى لو تراجع عنها بعد الجدل الذي أثارته في الداخل اللبناني، بل تعكس – في توقيتها ومضمونها – جملة من الرسائل السياسية والدلالات الرمزية التي يصعب فصلها عن السياق الإقليمي العام، وعن الدور الأميركي في إدارة التوازنات الحساسة في المنطقة، ولا سيّما في لبنان، في ظلّ المهمّة التي يقودها براك نفسه في هذه المرحلة.

ففي جوهر كلامه، أعاد براك تأكيد ثوابت السياسة الأميركية بشأن ملف سلاح "حزب الله"، وإن بصيغة التفافية، ربما في محاولة لتصويب الموقف الذي فُهِم "ليونة" تجاه الحزب. ولعلّ الإشادة بتجربة الرئيس أحمد الشرع في سوريا، وقد تكرّرت على لسان أكثر من مسؤول أميركي، تعكس رغبة واشنطن في تسويق نموذج "إعادة هيكلة" الدولة السورية بوصفه خيارًا قابلًا للتطبيق في لبنان أيضًا، خصوصًا في ما يخص احتكار الدولة للسلاح والقرار الأمني.

إلا أنّ البعد الأكثر إثارة في تصريح براك يبقى استعانته بمصطلح "بلاد الشام" على حساب التسمية الوطنية اللبنانية، وما رافق ذلك من حديث عن خريطة "غير مكتملة" للمنطقة. في هذا الخطاب تلميح ضمني إلى هشاشة الكيانات السياسية الحالية، وإعادة فتح الباب أمام النقاشات حول شرعية الحدود والكيانات التي رسمتها اتفاقية سايكس – بيكو. ورغم نفي براك المقصود السياسي لهذا التعبير، فإن وقعه لم يكن من الممكن أن يمرّ مرور الكرام.

ضغوط مستمرّة لحسم ملف السلاح

تأتي تصريحات براك في لحظة مشحونة، فعلى الرغم من الإيجابية التي أحاطت بزيارته الأخيرة، التي تسلّم فيها الجواب اللبناني على مقترحاته، يبدو أنّ الولايات المتحدة أكثر من "حاسمة" في موقفها، فالمماطلة في حسم ملف السلاح لم تعد مقبولة، وبالتالي فإنّ الحكومة اللبنانية أمام تحدٍ كبير لبلورة موقف متماسك، يعكس التزامها بمبدأ حصر السلاح بيد الدولة، من خلال تقديم خريطة طريقة كاملة ومتكاملة تفضي إلى ذلك في أقرب وقت.

بهذا المعنى، يمكن القول إنّ هذه التصريحات تندرج في سياق الضغوط المستمرّة على لبنان الرسمي من أجل حسم موقفه، وعلى "حزب الله" من أجل إظهار بعض الليونة، بعيدًا عن التشدّد الذي يتمسّك به، وعن الشروط التي يسعى لفرضها، إذ ترى واشنطن أن لحظة الحسم قد حانت، وأنّ هامش التردّد بدأ يضيق، ما يفسّر رفع السقف السياسي، سواء عبر تصريحات براك، أو عبر تسريبات دبلوماسية متزايدة تؤكد أن أيّ دعم دولي مشروط بخطوات ملموسة في ملف حصر السلاح.

بالتوازي، تترقّب الأوساط السياسية في بيروت الزيارة الثالثة المرتقبة لتوم براك، والتي يُتوقّع أن تكون أكثر وضوحًا في تحديد المسارات. وفيما لم يصدر عن الحكومة اللبنانية بعد أيّ موقف رسمي بشأن تصريحاته، يبرز تخوّف من أن تتحوّل هذه التصريحات، وما تحمله من رسائل رمزية، إلى جزء من خطاب دولي متصاعد قد يُستخدم لاحقًا كأداة لتبرير ضغوط أشدّ، وربما لعزل لبنان سياسيًا، في حال لم يُبدِ تجاوبًا واضحًا مع المطالب الدولية، ولا سيما تلك المتصلة بتطبيق القرار 1701.

تبدو الدولة اللبنانية مطالَبة اليوم، أكثر من أي وقت مضى، ببلورة خطاب سيادي متماسك، لا من موقع المواجهة، بل من منطلق المصلحة الوطنية. فسياسة المراوحة، والاكتفاء بالردود الخجولة أو "استيعاب" الضغوط، لم تعد كافية أمام مرحلة دقيقة قد تشهد تصعيدًا أكبر على مختلف المستويات، سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، في ظل تزايد الحديث عن مرحلة "إعادة ترسيم" النفوذ في المنطقة، والتي يبدو أن لبنان لن يكون بمنأى عنها.
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا