آخر الأخبار

فضائح الحرائق في لبنان: سمسرات وخطط خبيثة لسرقة الأموال!

شارك
كأننا في بلد لا يتعلم من حرائقه. ككل صيف، تعود ألسنة اللهب لتأكل ما تبقّى من أخضر، وتُطل علينا سحب الدخان من التلال والأودية، ومعها تتصاعد روائح الفشل والتواطؤ والتقصير الرسمي. لكنّ ما يحصل ليس مجرد حرائق موسمية بفعل الطقس. في لبنان ، النار غالبًا لا تشتعل وحدها. السيناريو بات مكرّراً: اندلاع حرائق في مناطق حرجية شبه مهجورة، انتشارها بسرعة غير منطقية، غياب شبه تام للإطفاء الجوي، ثم انطفاء الحريق تلقائيًا بعد أن يكون قد التهم مساحات شاسعة من الأشجار المعمّرة والغابات الطبيعية. وكالعادة، تنتهي القصة من دون محاسبة أو تحقيقات جديّة، وكأن لا أحد معنيّ بمعرفة "من أحرق لبنان؟".

اللافت في السنوات الأخيرة هو تكرار الحرائق في مواقع محددة، بعضها محميات طبيعية، وبعضها الآخر مناطق ذات قيمة عقارية وسياحية مرتفعة. فمؤخرًا، عُثر في أحد الأحراج على مواد سريعة الاشتعال مرمية بهدف إشعال حريق كبير، ما يعيد إلى الواجهة فرضية "الحرائق المُفتعلة". والمريب أنّ مثل هذه الاكتشافات لا تحرّك ساكنًا في مؤسسات الدولة ، بل تُطوى في أرشيف النسيان اللبناني، حيث تُدفن الجرائم البيئية كما تُدفن الجرائم المالية والسياسية.

من المستفيد؟ سؤال بديهي لا يجرؤ أحد على طرحه بجدّية، لأنه قد يقود إلى أجوبة محرجة. من المستفيد من احتراق غابة في عكار أو محمية طبيعية في جبل لبنان أو سفح جبلي في الشوف ، أو من تصاعد النيران في المناطق الحدودية الشمالية والشرقية؟ في بلد يعيش على تقاطع الطمع والفوضى، ليست الإجابة معقّدة كما يتوهّم البعض. ففي أغلب الحالات، لا تأتي الحرائق في أماكن عشوائية. بل تندلع في مواقع تحمل خصائص عقارية أو جغرافية مغرية، إما بسبب قربها من الطرق الرئيسية، أو لإطلالتها السياحية، أو لقيمتها الاستثمارية في مشاريع مستقبلية. والمفارقة أنّ كثيرًا من هذه المناطق كانت مصنّفة كـ"أراضٍ حرجية"، ما يجعل استخدامها لأي مشروع عمراني أو صناعي أو زراعي أمرًا محظورًا قانونًا. ولكن ما إن تلتهم النار الأشجار وتصنّف الأرض كمجرّد "منطقة متدهورة"، حتى يُعاد فتح الباب أمام إعادة تصنيفها لأغراض تجارية أو حتى شخصية. بمعنى أوضح، تُستخدم الحرائق كوسيلة لتغيير "وظيفة الأرض" بالقوة. فاليوم، لم يعد الأمر مقتصرًا على بعض الحطابين الجشعين أو الفلاحين الذين يشعلون النار لتوسيع مساحات الزراعة، بل دخلت في اللعبة جهات تملك النفوذ الكافي لتبديل الواقع القانوني للأراضي المحمية. وبعد فترة وجيزة من الحرائق، تبدأ المداولات في الدوائر العقارية حول "إعادة تقييم الأرض"، وربما لاحقًا تصاريح ببناء مشاريع سياحية أو معامل إنتاج أو استثمارات زراعية كبيرة الحجم.

بعيدًا عن منطق الاستثمار، هناك فرضية أكثر قتامة تتردد بين أبناء المناطق الحدودية: استخدام النيران لتطهير مسارات التهريب. فالمعابر الجبلية بين لبنان وسوريا، يكسوها في بعض المناطق، غطاء نباتي كثيف يُصعّب على المهربين التنقل. إشعال النار في هذه المواقع، خاصة في ليالٍ ذات رياح قوية، يؤدي إلى حرق كامل للطبيعة الحرجية، ما يسهّل العبور في الأيام التالية، ويفتح طرقًا غير شرعية لتهريب المحروقات، أو المخدرات، أو حتى البشر. في حالات أخرى، تُطرح فرضية ما يمكن تسميته بـ"الاستثمار البيئي المزيف"، حيث تتحول المناطق المتضررة من الحرائق لاحقًا إلى مشاريع محميات خاصة،ليس لأغراض الحماية البيئية، بل كواجهة لاستثمارات محاطة بإعفاءات ضريبية أو بمساعدات دولية تحت عنوان "إعادة التشجير" و"التنمية البيئية". وهذه المشاريع غالبًا ما تكون بيد منظمات أو شركات تابعة لأطراف نافذة، تستغل غطاء "البيئة" لحصد الدعم من دون رقابة حقيقية على نوعية الأعمال المنفذة أو أهدافها الفعلية.

وربما الأخطر في هذه المعادلة أن غياب التحقيقات الجدية بعد كل حريق كبير لا يُفسَّر فقط بالإهمال، بل أحيانًا بالصمت المقصود. فحين يحترق عشرات الدونمات في موقع له حساسية عقارية أو استراتيجية، ولا تُطلق الدولة يد القضاء أو الأجهزة الأمنية ، يفتح ذلك باب الشكوك حول حماية سياسية أو قضائية لمنفّذي تلك الجرائم البيئية. الصمت نفسه قد يكون إشارة ضمنية إلى أنّ الجريمة "مفهومة" أو "مبرَّرة" أو حتى "مرغوب فيها".

ما بعد الاحتراق: بيئة مدمرة وسكان مهددون
الحرائق لا تحرق فقط الأشجار، بل تدمر النظام البيئي الهش في لبنان، وتسرّع في التصحر، وتؤثر مباشرة على المناخ المحلي وجودة الهواء. كما تشرّد عشرات العائلات سنويًا، وتدمّر مزارع وأرزاق، خاصة في القرى النائية التي لا تملك بنى تحتية دفاعية أو دعمًا رسميًا. والأسوأ أنّ تكرار المشهد يدفع المواطنين نحو اللامبالاة، بعد أن أصبح "الدخان الأسود" جزءًا من صيفهم السنوي. فإذا كانت الدولة عاجزة عن منع الحرائق، فهل هي عاجزة أيضًا عن معرفة من يشعلها؟ أين القضاء البيئي؟ أين الأجهزة الأمنية؟ أين التوثيق العلمي والتحقيقات الجنائية البيئية؟ هل من المقبول أن تبقى هذه الجرائم بلا فاعل، بينما تُحاكَ القصص عن "حرارة الصيف" و"سوء الحظ"؟
الحقيقة أن العدالة المناخية في لبنان تبدأ من هنا، من لحظة مساءلة جدية، لا من استعراضات إعلامية موسمية. ما لم يتم التعامل مع ملف الحرائق كجريمة منظمة، فإن ما تبقى من خضرة هذا البلد سيكون في مهبّ رماد لا ينتهي.
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا