تبدأ الاثنين المقبل زيارة ثانية للمبعوث الأميركي توم برّاك إلى بيروت ، محملاً بما تصفه مصادر دبلوماسية بخارطة طريق لمسألة ضبط السلاح في لبنان ، في إطار مشروع أميركي يهدف إلى إعادة صياغة معادلات الأمن والاقتصاد والسيادة في البلاد.
برّاك، الذي تحدث إلى "نيويورك تايمز" عن مقاربة تقوم على سياسة "العصا والجزرة"، أوضح أن خطته تتضمن منح
الجيش اللبناني صلاحيات تنفيذ عمليات تفتيش داخلية بحثاً عن أسلحة غير شرعية، وربط هذا المسار بجهد مواز تقوده
واشنطن مع الرياض والدوحة، لتأمين دعم مالي لإعادة إعمار الجنوب وتطبيع الأوضاع في المناطق الحدودية.
هذا التوازي بين المسارين الأمني والاقتصادي ليس عفوياً. فالتحرك الأميركي، بات الآن منسقاً بعمق مع
السعودية التي تعود تدريجياً إلى المشهد اللبناني كفاعل سياسي وشريك إقليمي فاعل.
زيارة الأمير السعودي يزيد بن فرحان إلى بيروت عشية وصول برّاك لم تكن مصادفة في التوقيت. بل تعكس تناغماً واضحاً بين واشنطن والرياض حول الأجندة المطلوبة من لبنان. إذ تؤكد الرياض، كما واشنطن، على ضرورة حصر السلاح بيد الدولة، وتشدد على أهمية الإصلاحات السياسية والمالية كبوابة لأي دعم اقتصادي، وتدعو إلى إعادة رسم العلاقة اللبنانية–
السورية على قاعدة الندية والاحترام المتبادل، لا التبعية التي سادت سابقاً.
وإن كانت واشنطن تحرك أدواتها الدبلوماسية والأمنية عبر موفديها ومجموعات الضغط الدولية، فإن السعودية تحرك نفوذها عبر الدعم العربي، وتلعب على التوازنات الطائفية والاقتصادية الحساسة داخل لبنان، مستعيدة دوراً كانت قد تخلّت عنه طويلاً. التنسيق واضح أيضاً من خلال "اللجنة الخماسية" التي تابعت أمس تطورات الموقف اللبناني، فعقدت اجتماعا في السفارة الأميركية في عوكر، حيث طرح بوضوح سؤال المرحلة: هل الحزب جاهز لتقديم تنازل محسوب في مقابل حماية موقعه السياسي؟ وهل لدى لبنان الرسمي إرادة إنتاج موقف موحد يسند التفاوض؟
حتى الساعة، لم يصدر عن "
حزب الله " رد مباشر على ورقة برّاك، لكن أجواء الكتمان المحيط بالمناقشات داخل مؤسسات الدولة توحي ، بحسب مصادر سياسية بارزة، بأن "الحزب" يدرس خياراته بعناية، ومن المتوقع أن يسلم موقفه إلى الرئيس
نبيه بري خلال اليومين المقبلين، تمهيداً لاجتماع جديد ل"اللجنة الرئاسية المشتركة" لإعداد الرد اللبناني الرسمي.
ولم يخرج البيان الأخير لكتلة الوفاء للمقاومة عن إطار التهدئة الحذرة،إذ دعا إلى احترام السيادة الوطنية في كل المقاربات الأمنية، وإلى تثبيت
التزام لبنان بوقف إطلاق النار في ظل تجاهل إسرائيلي فاضح. لكنه تجنب بشكل لافت الإشارة إلى مسألة السلاح، وهو ما قد يفهم في إطار مراعاة مناخ المفاوضات، أو كتمهيد لإمكانية تدوير الزوايا لاحقاً.
في المقابل، الرسائل السعودية التي يحملها الأمير يزيد والذي سيلتقي برّاك في بيروت أكثر صراحة: لا دعم اقتصاديا من دون إصلاحات حقيقية، لا تهاون مع استمرار واقع ازدواجية السلاح، ولا وقت للمماطلة في ضوء التحولات الإقليمية. فالمملكة ترى، بحسب مصادر دبلوماسية، أن اللحظة الإقليمية تفرض مقاربة جديدة أكثر عقلانية، لا سيما مع وجود تفاهم مستقر مع واشنطن وباريس على المبادئ العامة لأي تسوية لبنانية. هنا، تتقاطع بوضوح أولويات الرياض وواشنطن: الحفاظ على الاستقرار، منع تفلت أمني أو عودة خلايا متطرفة، وتحفيز المسار الإصلاحي.
وإذا كانت واشنطن تمسك بعصا الضغوط السياسية والمالية، فإن السعودية تعرض الجزرة بشروط واضحة. والاثنتان تتفقان على أن الوقت يضيق، وأن المماطلة لم تعد خياراً مقبولاً، وأن لبنان بحاجة إلى تموضع جديد لا يسمح له بأن يبقى متفرجاً على إعادة تشكيل خرائط النفوذ في المنطقة.
وعليه، فإن الترقب سيد الموقف للحظة اختبار حقيقية للقدرة
اللبنانية على إنتاج تسوية داخلية متوازنة تحفظ ما تبقى من تماسك في هذا البلد، وتفتح نافذة لإنقاذ اقتصادي وأمني مشروط. وأي تأخير إضافي قد يدفع البلاد مجدداً نحو العزلة، وربما الفوضى.فالمطلوب اليوم، بحسب مصادر دبلوماسية ليس فقط الرد على ورقة برّاك، بل قراءة الرسائل المشتركة الأميركية -السعودية بواقعية، والذهاب إلى طاولة التفاوض بخطاب واحد، وسيادة موحدة، ورؤية قابلة للتطبيق.