لم تكن مسألة زيادة مئة ألف ليرة على سعر صفيحة البنزين أو المازوت سوى نقطة في بحر المشاكل، التي يغرق فيها اللبنانيون، جميع اللبنانيين من دون استثناء حتى أذنيهم. فالمشاكل الآتية هي أكثر تعقيدًا وأكثر ثقلًا على كاهل المواطنين، الذين باتت حياتهم اليومية مرهونة حتى بمئة ألف ليرة، في الوقت الذي تبخّرت فيه مدخراتهم، وهي بمئات آلاف الدولارات.
وإن دّلت ردود الفعل الشعبية والنقابية على شيء فإنما تدّل على قصر نظر الحكومة، التي حاولت أن "تكّحلها" مع عناصر القوى العسكرية فـ "عمتها" مع كل الشعب اللبناني، ومن بينهم بالطبع أفراد الاسلاك العسكرية، الذين يعتقدون أن الحكومة حاولت أن تعطيهم بالشمال لتأخذ منهم باليمين مما أعطتهم إياه من كيسهم. وقصر نظر الحكومة في مسألة حسّاسة بالنسبة إلى شريحة واسعة من اللبنانيين لا يقتصر على هذه الزيادة، بل ما يمكن أن يتعدّاها لتصل خفّة التعاطي إلى حدّ فرض رسوم مستقبلية على الطحين والسكر وغيرهما من الأساسيات في الحياة اليومية.
يقول بعض الوزراء الذين كانوا وراء هذا الاقتراح غير الشعبي بأن "مئة ألف ليرة" لا تساوي شيئًا بالنسبة إلى المواطن العادي، لكن من شأن هذه الزيادة أن ترفد الخزينة
اللبنانية بما يمكّنها من تقديم بعض المساعدات للعسكريين إضافة إلى رواتبهم غير المنصفة وغير العادلة في حين أنهم مطالبون بالكثير في مجال سهرهم على أمن المواطن.
وتبريرًا لهذا القرار، الذي لا يمكن وصفه إلاّ بـ "الهميوني"، يذهب هؤلاء الوزراء إلى حدّ الاستعانة بمنطق الذين لا يرون إلاّ بعين واحدة حين يقولون بأن المطاعم والمقاهي والملاهي "مفولة"، ويكاد قاصد هذه الأماكن، وفي كل المناطق وليس في منطقة محدّدة، لا يجد كرسيًا، وهو يحتاج إلى الحجز مسبقًا، وربما قبل أسابيع لكي يستطيع أن يضمن مقعدًا شاغرًا.
ولكن في المقابل نسي هؤلاء الوزراء أو تناسوا أن الذين يرتادون هذه الأماكن لا تتعدّى نسبتهم العشرة في المئة من الشعب اللبناني، فيما نسبة التسعين في المئة من اللبنانيين هم تحت خط الفقر، وهم يحتاجون إلى كل مئة ألف ليرة لكي يؤمنوا ما يكفي عيالهم من خبزهم اليومي.
فإذا كانت
هذه الحكومة تتصرّف بهذه الخفّة مع مسألة تعتبرها "صغيرة" فكيف سيكون أداؤها في الأمور، التي تراها "كبيرة". ففي الأمور "الصغيرة" فشلت فكيف الحال مع الأمور "الكبيرة". وإذا كانت مسألة بهذه البساطة لم تستطع الحكومة الحالية حلها بـ "التي هي أحسن" فكيف ستتعاطى مع
القضايا الشائكة، التي يتطلب حلها خبرة واسعة وبعد نظر وخطة واضحة ومتكاملة العناصر، البشرية والمادية منها؟
يقال على ذمة الراوي إن الحكومة، التي واجهتها حملة غير مسبوقة اعتراضا على زيادة المئة ألف ليرة، تستطيع أن تحصّل ما تتوقّع أن تجبيه من هذه الزيادة اضعافًا مضاعفة بالمئات لو أحسنت إدارة مرافقها العام، كالمرافئ البحرية التجارية والسياحية مثلًا. فمرفأ
بيروت ، الذي لا يزال يلملم "أشلاءه" جرّاء انفجار العصر، كافٍ لوحده إذا ما ضُبطت جباياته، ومُنعت عنه عمليات التهريب، لسدّ ما ينقص الخزينة بما يعادل الثلاثة مليارات دولار، إن لم يكن أكثر، سنويًا. ناهيك عن مرفأ
طرابلس المؤهل لأن يلعب دورًا تجاريًا مهمًّا في مرحلة إعمار
سوريا ، وذلك لقربه من السواحل
السورية .
فبهذه الطريقة وبغيرها من الطرق السليمة، التي من شأنها أن تعزّز قدرات الدولة المالية، لا تعود الحكومة المسماة حكومة "الإنقاذ والإصلاح" لتلجأ إلى فرض رسوم، ولو بجزئياتها تبدو بسيطة، على عامة الشعب، التي تئّن لشحّ الإنتاج في القطاعين الخاص والعام، ولندرة فرص العمل، وبالأخص بالنسبة إلى الشباب المتخرّج من الجامعات بكفاءات علمية فائقة.
من الصعب جدًّا أن تتمكّن الحكومة من انجاز الحدّ الأدنى مما هو مطلوب، انقاذيًا وإصلاحيًا، في الوقت المتبقّي لها قبل أن تتحوّل إلى حكومة تصريف أعمال بعد الاستحقاق النيابي في أيار من العام المقبل.