بات التصعيد
الإسرائيلي مرتبطا بخطط استراتيجية أبعد مدى، تبدأ من محاولة تطويق
حزب الله سياسيا وشعبيا، ولا تنتهي عند السعي لتعديل قواعد الاشتباك أو فرض وقائع ميدانية جديدة. في هذا السياق، تندرج سلسلة الرسائل التي وجّهتها
إسرائيل ، سواء عبر الغارات أو عبر الضغط على بعثة اليونيفيل الدولية، في إطار مشروع أوسع يعاد تفعيله مستفيدا من التحولات في
سوريا ، والانشغال الإقليمي، والتراخي الدولي. فما الذي تسعى إليه إسرائيل اليوم؟ وهل يملك
لبنان أدوات الردع والمناورة أم أن البلاد باتت أمام مرحلة دقيقة تتطلب إعادة تموضع شاملة؟
تعمّدت إسرائيل استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت ليلة عيد الأضحى، في محاولة جديدة للانتقام من البيئة الحاضنة للمقاومة. ومن الواضح، كما يؤكد العميد أكرم سريوي، أن إسرائيل منزعجة من مشهد التأييد الواسع لحزب الله، والذي تجلّى في الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة، لا سيما في قرى وبلدات الجنوب التي تعرّضت لعدوان غير مسبوق ودمار واسع نفذته قوات الاحتلال. كما يظهر انزعاج إسرائيلي من تحسّن الأوضاع في لبنان، ومظاهر عودة السياح والمغتربين، وما يُحكى عن صيف واعد ونشاط ملحوظ في مطار
بيروت ، وعودة شركات الطيران الأوروبية إلى مطار رفيق
الحريري ، في مقابل تعليق شركات كبرى رحلاتها إلى مطار بن غوريون، الذي يتعرض لقصف يمني شبه يومي وتتوقف فيه حركة الملاحة بشكل متكرر. أما السبب الثالث، فهو محاولة إسرائيل الضغط على الدولة
اللبنانية لنزع سلاح
المقاومة ، والانخراط في مسار التطبيع، والخضوع للشروط
الإسرائيلية . وهناك أيضًا رسالة اعتراض مبطّنة إلى الإدارة الأميركية على إنهاء مهمة مورغان أورتاغوس، التي كانت تؤيد إسرائيل بشكل كامل ومطلق. ويسعى بنيامين نتنياهو، في سياق آخر، إلى الهروب من أزماته الداخلية بعد الإخفاق في غزة، عبر تصعيد التوتر مع لبنان، بهدف استدراج حزب الله إلى الرد، ما يمنح إسرائيل ذريعة لتنفيذ اجتياح واسع للجنوب. خاصة أن منطقة جنوب الليطاني باتت شبه خالية من عناصر المقاومة، بعد أن أخلت حزب الله مراكزه هناك، وسلّم أكثر من 500 موقع إلى الجيش .
من المؤكد أن إسرائيل لا تريد هدوءًا أو نظامًا أو استقرارًا في لبنان ما لم يتحقق لها أمنها. والسؤال المطروح: ما هو مستقبل الوضع في جنوب لبنان والضاحية، في حال لم يُحلّ ملف السلاح؟ وما هو الخطر الذي قد يتهدد لبنان إذا تمّ التفاهم بين النظام السوري الحالي وإسرائيل؟
وفي هذا السياق، يقول العميد سريوي: لو كانت إسرائيل تبحث عن الأمن والسلام مع لبنان، لكان ذلك تحقق منذ أشهر، إذ إن لبنان التزم بالكامل ببنود الاتفاق، ولم يطلق حزب الله أي رصاصة واحدة باتجاه إسرائيل منذ إعلان الاتفاق. لكن إسرائيل هي من اختارت استمرار الحرب والاعتداء على لبنان، وخرقت الاتفاق أكثر من 3600 مرة، ولا تزال تحتل أراضي لبنانية، وترفض الانسحاب، وتواصل عمليات القصف.
إن السبب الحقيقي وراء هذا التصعيد هو أن لدى إسرائيل مشروعا توسعيا، يهدف، بحسب قراءة سريوي، إلى احتلال منطقة جنوب الليطاني كخطوة أولى، ومن ثم التوسع باتجاه نهر الأولي. وهي ترى أن الفرصة سانحة حاليا لتنفيذ هذا المشروع، خصوصا بعد انهيار النظام السوري السابق، وقطع طريق إمداد حزب الله بالسلاح، واستعداد النظام السوري الجديد لتقديم تنازلات كبرى لإسرائيل. ومن أبرز مؤشرات ذلك إعلان الرئيس السوري، أحمد
الشرع ، استعداده للانضمام إلى الاتفاقات الإبراهيمية وعقد سلام مع إسرائيل. في حين أن العقبة الوحيدة المتبقية أمام هذا المشروع الإسرائيلي هي وجود سلاح حزب الله في لبنان، إذ إن نزعه سيفتح الطريق أمام دخول إسرائيلي محتمل إلى صيدا وجزين، وربما حتى بيروت، إذا اقتضى الأمر.
وعليه، فإن من يراهن على الدبلوماسية ويعول على "دول صديقة" للبنان للضغط على إسرائيل من أجل الانسحاب من الأراضي المحتلة واحترام سيادة لبنان، هو شخص واهم، بحسب العميد سريوي. فالتجارب تؤكد أن أولوية أميركا والدول الغربية هي إرضاء إسرائيل، حتى لو كان ذلك على حساب مصالح
الدول العربية كافة.
وفي خضم كل ما يجري، يتصاعد الخلاف بين اليونيفيل والأهالي في الجنوب، بالتوازي مع المفاوضات الجارية بشأن عدم تعديل صلاحيات القوات الدولية، التي يُنتظر تمديد مهمتها في آب المقبل.
ويؤكد العميد سريوي أن هناك حالة من النقمة لدى بعض أهالي الجنوب على بعض وحدات اليونيفيل، بسبب تحوّلها إلى ما يشبه الأداة بيد إسرائيل، تتلقى منها الأوامر لشن مداهمات في بعض القرى، من دون أن تتخذ أي إجراءات لردع الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على السكان، علما أن قوات الطوارئ الدولية، التي تضم عناصر من 43 دولة، فشلت في تنفيذ مهمتها وتحقيق السلام، ولم ترد حتى على الاعتداءات التي طالت عناصرها ومراكزها. وهذا الواقع دفع بعض سكان الجنوب إلى النظر إلى بعض وحدات اليونيفيل كقوات منحازة لمصلحة العدو، ما أدى إلى صدامات بين الأهالي وبعض هذه الوحدات. إلا أن القسم الأكبر من قوات اليونيفيل يحظى بثقة وتقدير السكان، ولم يُسجل مثلا أي صدام مع الكتيبة الصينية، التي تنشط في كامل منطقة جنوب الليطاني.
ويشدد العميد سريوي على أن لا مصلحة للبنان بإنهاء مهمة اليونيفيل، لأن المستفيد الوحيد من ذلك سيكون إسرائيل، إذ ستتحرر من أي رقابة دولية على الأرض، إذا قررت توسيع عدوانها واحتلال الجنوب. وتعمل إسرائيل، بدعم أميركي، على إنهاء مهمة اليونيفيل أو الضغط لتوسيع صلاحياتها، لكن لبنان يرفض ذلك، إذ إن التنسيق بين اليونيفيل والجيش اللبناني ضروري، ويتعلق بحق الدولة وحدها في فرض سيادتها على كامل أراضيها. ولا يمكن القبول بأن تتصرف اليونيفيل بشكل حر ومستقل داخل لبنان، فهذه مسألة وطنية تمس بهيبة الدولة اللبنانية وسيادتها، ولا يمكن التفريط بها بأي حال من الأحوال.