في بلدٍ يطارد فيه المواطن لقمة العيش كمن يطارد سرابًا، بات عيد الأضحى هذا العام اختبارًا جديدًا للطبقات المسحوقة. ليست الأزمة في تفاصيل الطقوس أو تقاليد الذبح، بل في السؤال الذي بات يُطرح بصوت عالٍ: من يستطيع اليوم أن يضحّي؟
لم يعد شراء الأضحية أمرًا بديهيًا كما في سنوات فائتة، بل صار ترفًا شبه مستحيل في ظل جنون الأسعار وتآكل القدرة الشرائية. ففي
لبنان ، تقترب تكلفة الخروف الواحد من سعر ليرة ذهب، وتراجعت الأضحية من شعائر سنوية إلى "رفاهية دينية"، لا يقوى عليها إلا القلّة.
فبينما استقرّ سعر ليرة
الذهب عند حدود 750 دولارا، تبدأ أسعار الأضاحي في السوق
اللبنانية من نحو 295 دولارًا لتصل إلى 775 دولارًا، بحسب نوع الأضحية وحجمها. أما مَن يختار الجمع بين الشراء والطبخ، فسيدفع مبلغًا يقارب 923 دولارًا، وفق ما أوضحه كمال
عبد الحق ، مدير أحد المطابخ المتخصصة بالأطباق اليومية، لـ"
لبنان24 ".
ولا تبدو هذه الأرقام مجرّد ارتفاع موسمي، بل تعكس مسارًا تصاعديًا حادًا: الأسعار تضاعفت أكثر من مرتين خلال السنوات القليلة الماضية، بعدما كان سعر الخروف لا يتجاوز 125 دولارًا في بعض المواسم. فما الذي تغيّر؟
في بلد يئنّ تحت وطأة أزمات معيشية متتالية، تحوّلت الأضحية إلى عبء مادي لا يحتمله إلا قلة. لم تعد اللحمة طقسًا عائليًا أو مناسبة خيرية، بل سلعة مرهونة لتقلبات السوق، وتكاليف العلف، ونفقات الرعاية البيطرية، وفوق ذلك،
أزمة الثقة .
فبينما بدأت السوق اللبنانية تستقبل لحومًا مستوردة مذبوحة في الخارج بأسعار أقل، لا يزال الإقبال الشعبي عليها خجولًا. السبب؟ كما يوضح عبد الحق، هو عدم الثقة بهذه اللحوم لعدم توافقها مع الشروط الشرعية الدقيقة للأضحية – من عدم وجود كسر أو عرج أو مرض، وهي شروط يصعب التأكد من توافرها في الذبائح الجاهزة.
نظام "المشاركة": فتات اللحمة للجميع
أمام هذا الواقع، برز حلّ شعبي لا يخلو من المرارة: المشاركة. لم يعد من المستغرب أن يتشارك أربعة أو خمسة من عائلات مختلفة في شراء أضحية واحدة، أو أن تُقسّم اللحمة الواحدة على أكثر من عائلة. حتى الجمعيات الخيرية التي كانت تشكّل صمام أمان غذائيًا في الأعياد، بدأت تنكفئ. وهذا ما يوضح حجم التراجع في شراء الأضاحي، إذ يؤكّد أمين سر نقابة القصّابين،
ماجد عيد ، أن الإقبال على الأضاحي هذا العام تراجع بشكل ملحوظ، لا سيما من جانب الجمعيات الخيرية المدعومة خارجيًا. ويشير إلى أن "عدد الأضاحي هذا العام هو الأدنى منذ سنوات"، واصفًا الأمر بأنه "مؤشر سلبي يحمل دلالات اجتماعية مقلقة، خصوصًا للفئات الأشد فقرًا التي كانت تعتمد على لحوم الأضاحي كمصدر بروتيني سنوي".
ما يجري ليس أزمة أسعار فقط، بل انهيار تدريجي في قطاع المواشي واللحوم ككل. الاستيراد تراجع بنسبة 60%، والأسواق لا تزال تعاني شُحًّا متناميًا في
العرض ، ما ينبئ بمزيد من الضغوط خلال الأشهر المقبلة. وفي موازاة ذلك، حذّر عبد الحق من "ممارسات احتيالية" بدأت تنتشر بشكل مقلق، مثل خلط اللحوم المجمدة والمبردة وبيعها على أنها طازجة، وهو ما يعرّض المستهلكين للخداع، خصوصًا في ظل غياب الرقابة الفعّالة.