في
لبنان ، لا تُجمِع الساعات على توقيت واحد. فبين من يخلدون إلى النوم باكرًا بعد يوم شاق، ومن يبدأون يومهم حين ينام الآخرون، يبدو البلد وكأنه منقسم إلى نصفين زمنيين. فالحياة لا تتوقف ليلًا في بعض الأماكن، كما لا تنتظر الشمس لتبدأ في أماكن أخرى.
مع ساعات
الفجر الأولى، تبدأ الحركة في الشوارع الجانبية والأسواق الشعبية. عربات الخضار تُحمّل، الأفران تُشعل، وعمال التنظيفات يسبقون ضوء الصباح. هذا المشهد يتكرر يوميًا، لكنه يمرّ بصمت على من لا يستيقظون إلا بعد أن يكون نصف النهار قد مضى. في أحد أحياء
الكرنتينا ، وفيما كانت المدينة لا تزال تغفو تحت ستار الليل، كانت "أم علي" (55 عامًا) قد أنهت عجن العجين وأشعلت التنور. تقول لـ"
لبنان24 ": أنا بفيق الساعة 4 إلا ربع، حتى ولّع النار وأكون جاهزة قبل ما يوصل أول زبون الساعة 5. في ناس بتتسحر، وفي ناس رايحة عالشغل. كل واحد عندو توقيتو". أمثال أم علي كثر. فعمال النظافة في
بيروت يبدأون يومهم حوالي الساعة 4:30 فجراً، فيما تنطلق باصات النقل العام وسيارات الأجرة من مواقفها المعتادة باتجاه المدينة حوالي الساعة 5:15 صباحاً.
وفي وقتٍ ما تزال فيه النوافذ مغلقة والمقاهي فارغة في بعض الأحياء، تكون الحياة قد انطلقت فعليًا في أماكن أخرى. تشير بيانات من "Google Maps" إلى أن أوقات الذروة الصباحية في المدن
اللبنانية تبدأ قرابة الساعة 6:30 صباحًا، خصوصًا عند المخابز ومحطات الوقود، وترتفع تدريجيًا حتى الثامنة والنصف.
في المقابل، لا تغيب الحياة ليلًا. في مناطق معينة، يمتد النشاط إلى ما بعد منتصف الليل، خصوصًا في عطلات نهاية الأسبوع. وتُظهر بيانات الاستهلاك على تطبيقات التوصيل والطعام أن الطلبات الليلية تسجّل ذروتها الثانية بعد الساعة 11 مساءً.
هذه المفارقة ليست مجرد اختلاف في أسلوب الحياة، بل تعكس تباينًا اقتصاديًا واجتماعيًا أيضًا. فالعاملون في القطاعات الإنتاجية والتقنية غالبًا ما يبدأون يومهم باكرًا، في حين يتمدد الوقت لدى من يرتبط نمطهم بالحياة الليلية والخدمات الترفيهية.
يقول أحد عمال المخابز لـ"لبنان24": "أنا ببدأ عملي قبل الساعة 5، بس بكون خلصت نص نهاري قبل ما كتير ناس يصحوا". بينما يروي موظف توصيل يعمل في الليل: "الشغل الحقيقي بلّش من التسعة وطالع. في زباين بيتعشّوا بعد منتصف الليل".
وفي استطلاع للرأي أجرته إحدى الجامعات الخاصة على عيّنة من 400 شاب وشابة، قال 57% إنهم يفضلون السهر، بينما اعتبر 43% أنفسهم "صباحيين".
لكن خلف هذا التفاوت في
الإيقاع ، تكمن خصوصية لبنانية فريدة. فالبلد الذي أنهكته الأزمات لا يزال ينبض بالحياة على مدار الساعة، وكأن لا وقت فيه للتوقف، أو كأن أبناءه يحاولون سرقة الزمن، كلٌّ على طريقته. البعض يختار أن يبدأ باكرًا ليظفر بساعات العمل قبل أن تزدحم الطرقات وتُثقله المتطلبات اليومية، والبعض الآخر يؤجل يومه إلى الليل، حيث هدوء المدينة يسمح بنَفَس أطول وسعي مختلف.
في بلد تتقلّب فيه الظروف بين ليلة وضحاها، يصبح تنظيم الوقت رفاهية لا يملكها كثيرون. العمل لا يرتبط بساعات محددة دائمًا، والدراسة لا تجري وفق نظام صارم، وحتى النوم لم يعد ملكًا للجميع. من السهل أن تجد موظفًا يعمل في دوامَين، أو شابًا يدرس نهارًا ويعمل ليلًا، أو عائلةً تنظم حياتها على إيقاع الكهرباء والانترنت.
لبنان لا يسير على توقيت موحّد. ليس فقط بسبب الانقسامات المعروفة أو الفروقات بين المناطق، بل لأن الزمن نفسه في
هذا البلد بات نسبيًا. كل فرد يعيش ساعته الخاصة، وكل مهنة لها جدولها، وكل نمط حياة يُفرَض أحيانًا لا يُختار.
ربما لا تحتاج بيروت ولا غيرها إلى لقب "المدينة التي لا تنام"، فالحقيقة أن كل لبنان لا ينام كله، ولا يصحو كله. هو بلد يعمل ويسهر، ينهض ويتعب، يسابق الوقت أحيانًا... ويتجاهله أحيانًا أخرى.