طُوِيت صفحة الانتخابات البلدية والاختيارية التي طال انتظارها، بعد التمديد لثلاث سنوات متتالية للمجالس البلدية التي انتهت ولايتها الدستورية منذ العام 2022، وطُويت معها كلّ "التحدّيات" التي رافقتها على المستويين اللوجستي والأمني، لتخرج الحكومة ممثَّلة بوزارة الداخلية والبلديات "رابحة" على الرغم من بعض الإخفاقات التي سُجّلت، خصوصًا على مستوى ضعف التدريب الذي تجلّى ارتباكًا واضحًا لدى الكثير من رؤساء الأقلام.
رغم ذلك، يصحّ اعتبار الحكومة "رابحة" من الاستحقاق الانتخابي البلدي والاختياري، أولاً لأنّها أنجزته في موعده، ولو كان مؤجَّلاً، وهو ما شكّل "تحديًا حقيقيًا"، وانعكس ضبابية أحاط بالاستحقاق حتى اللحظة الأخيرة، وثانيًا لأنها تجاوزت كلّ المعوّقات والصعوبات، بما في ذلك تلك الأمنية، في ظلّ الاعتداءات
الإسرائيلية المتواصلة، التي شوّشت على المسار الانتخابي في كلّ محطّاته، وخصوصًا في محطته الأخيرة في الجنوب والنبطية.
لكن، أبعد من النجاح التنظيمي الذي حقّقته الوزارة، والذي لم تخرقه سوى بعض الإشكالات الأمنية، خصوصًا في
الشمال وعكار، فضلاً عن البلبلة التي أحاطت بعمليات الفرز في بعض المناطق، ولا سيما
طرابلس ، وربما
صيدا بنسبة أقلّ، قد يكون من المفيد القراءة بمراجعة "شاملة" للاستحقاق الانتخابي والبلدي على المستوى السياسي، فما هي الاستنتاجات التي يمكن الخروج بها، وأيّ مؤشّر تعطي قبل الانتخابات النيابية المنتظرة العام المقبل؟
الأحزاب الكبرى تتصدّر
قد تكون الخلاصة الأساسيّة التي يمكن الخروج من مجمل محطّات الانتخابات البلدية والاختيارية هي أنّ الأحزاب الكبرى عادت لتتصدّر المشهد بأريحيّة، وذلك على صعيد معظم المناطق والطوائف، باستثناءات قليلة، ولعلّ تجربة انتخابات بلدية
بيروت تشكّل أسطع دليل على ذلك، حيث استطاع تحالف الأحزاب أن ينتصر، على الرغم ممّا اعتبره كثيرون "خللاً بنيويًا" في تركيبته، بعدما جمع "الأضداد"، من "
حزب الله " إلى "
القوات اللبنانية ".
وبعيدًا عن هذا التحالف، يمكن القول إنّ نقطة التقاطع في الانتخابات بين مختلف المناطق تمثّلت في تكريس "نفوذ" الأحزاب الكبرى، فعلى المستوى الشيعي مثلاً، أكّد تحالف "حزب الله" و"
حركة أمل " أنه لا يزال الرقم الصعب، حتى إنّ الأرقام التي أفرزتها الانتخابات أظهرت "التصاق" البيئة الشيعية بالثنائي أكثر من أيّ وقت مضى، ما أعطى انطباعًا بأنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة، والأجواء التي ترتّبت عليها، جاءت في صالحه شعبيًا.
وعلى المستوى الدرزي أيضًا، كرّست هذه الانتخابات تقدّم "
الحزب التقدمي الاشتراكي " في المناطق المحسوبة عليه، فيما أبرزت التعدّدية
المسيحية مرّة أخرى، خصوصًا على مستوى "
التيار الوطني الحر " و"القوات
اللبنانية "، في ضوء ما أفرزته المعارك مثلاً في زحلة وجزين، فضلاً عن تلك المستمرّة على اتحادات البلدية، لتبقى الساحة السنّية مفتوحة على احتمالات شتّى، بما يعكس التأثير الذي تركه قرار
تيار "
المستقبل " عدم الانخراط في المشهد الانتخابي.
إلى النيابة دُر..
ضمن الخلاصات التي يمكن قراءتها بنتيجة الانتخابات البلدية والاختيارية، يمكن الحديث أيضًا عن تراجع للخيارات "البديلة" التي كانت قد تقدّمت في السنوات الأخيرة، خصوصًا في أعقاب الاحتجاجات الشعبية في العام 2019، مع بروز ما سُمّي بالخط "التغييري"، وهو خط بدا أنّه تعرّض لـ"انتكاسة" عابرة للمناطق في هذه الانتخابات، على امتداد الوطن، وهو ما يعكس برأي كثيرين، "خيبة أمل وإحباط" من أداء ممثّلي هذا الخط على أكثر من مستوى.
وبالتوازي مع كلّ هذه الخلاصات، قد تشكّل نسبة الاقتراع مؤشّرًا أيضًا لا بدّ من التأمّل فيه، وهي نسبة بدت "متواضعة" في معظم المناطق، و"خجولة" في مناطق أخرى، كالعاصمة بيروت مثلاً، ويقول العارفون إنّ هذه النسبة قد تكون مفهومة باعتبار أنّ "الحماسة" غابت عن هذه الانتخابات، فضلاً عن وجود كثيرين خارج البلاد، إلا أنّها قد تشكّل في الوقت نفسه مؤشّرًا على أنّ "فريق الرماديّين"، أو بالحدّ الأدنى "غير المكترثين" يتّسع نطاقًا أكثر فأكثر.
يبقى السؤال الذي يطرحه كثيرون هو حول كيفية توظيف هذه النتائج في التحضير للانتخابات النيابية المقبلة، وهو ما يقول العارفون إنّه ليس بهذه البساطة والسهولة، فالنظام الأكثري الذي جرت الانتخابات البلدية بموجبه لا يشبه ذلك النسبي المعقّد الذي يطبع الانتخابات النيابية، والذي يتطلب في معظم المناطق مقاربات مختلفة، ولو أنّ هناك من يعتقد أنّ ما جرى يمكن أن يؤثّر على التكتيكات التي يمكن أن تُعتمَد، وعلى طبيعة التحالفات في المقام الأول.
دروسٌ كثيرة يمكن أخذها من الانتخابات البلدية والاختيارية إذًا، وقد بدأت الكثير من القوى السياسية بقراءتها في العمق، قد يكون أهمّها أنّ الأحزاب الكبرى استعادت عافيتها إلى حدّ بعيد، وأنّ القوى "التغييرية" هي التي تمرّ بما يشبه "الانتكاسة". فهل تكون المرحلة الفاصلة حتى موعد الانتخابات النيابية، العام المقبل، كافية لإعادة رسم المشهد، وربما "تصويب البوصلة"، أم أنّ ما كُتِب قد كُتِب، وقد صدر حكم الشعب؟!