أخيرًا، جاء دور "التحدّي الأكبر"، أو ربما "الاستحقاق الأصعب"، في الانتخابات البلدية والاختيارية، بعدما تجاوزت البلاد "القطوع" في كلّ المحافظات، من
جبل لبنان ، إلى
الشمال وعكار، مرورًا ببيروت والبقاع وبعلبك الهرمل، ولم يبقَ إلا الجنوب، الذي يواجه حربًا إسرائيليّة دمويّة انتهت نظريًا وافتراضيًا قبل أشهر باتفاق لوقف إطلاق النار، لكنّها استمرّت عمليًا بخروقات وانتهاكات لا تتوقف للسيادة
اللبنانية .
وفي وقتٍ كان يُنتظر أن تدخل البلاد مرحلة "الصمت الانتخابي" عشيّة فتح صناديق الاقتراع عند الساعة السابعة من صباح السبت، عملاً بالقانون الانتخابي، بدا أنّ ما تحتاجه البلاد هو "صمت" الطيران الحربي، بعدما قرّر العدوّ
الإسرائيلي أن "يستعدّ" لليوم الانتخابي على طريقته، فأصدر إنذارًا بإخلاء مبنى في بلدة تول، متسبّبًا بحالة من الذعر والقلق، ليشنّ بعد ذلك سلسلة من
الغارات التي شملت العديد من المناطق والقرى الجنوبية.
سريعًا، أدان رئيس الحكومة نواف سلام الاعتداءات
الإسرائيلية ، واصفًا توقيتها قبيل الاستحقاق البلدي في الجنوب بـ"الخطير"، ومشدّدًا على
التزام الحكومة الكامل بإجراء الانتخابات في موعدها، انطلاقًا من حرصها على ترسيخ الحياة
الديمقراطية ، وعدم الانصياع لأي محاولات لعرقلة هذا المسار، فعلامَ يستند في ذلك، وهل يمرّ الاستحقاق على خير عمليًا، وكيف تُقرَأ الاعتداءات الإسرائيلية، وأيّ رابط بينها وبين الانتخابات؟!
"تشويش انتخابي"
فيما كانت بلدات الجنوب اللبناني وقراه تستعدّ للاستحقاق الانتخابي البلدي، بحماسة "متفاوتة"، بين بلدات اختارت تجنّب المعركة فلجأت إلى التزكية، وأخرى تمسّكت بالمسار
الديمقراطي وحقّ الترشح والمنافسة، كانت
إسرائيل تدخل على الخط، على طريقتها الفجّة، فتحوّل اهتمامات الجنوبية من المعركة
الانتخابية الإنمائية والأهلية، إلى المعركة الأكبر مع عدوّ لا يُعرَف إن كان سيلتزم بـ"هدنة فوق الهدنة"، أو أقلّه بما يُعرَف بـ"الصمت الانتخابي".
يقول العارفون إنّ إسرائيل تعمّدت "التشويش" على المشهد الانتخابي، خصوصًا أنّ عودة الحياة إلى القرى الجنوبية، ولو بالحدّ الأدنى، تبدو "مستفزّة" لها، علمًا أنّ اعتداءاتها وغاراتها جاءت على وقع النداءات التي وجّهها "
الثنائي
الشيعي " تحديدًا لجماهيره، بتحويل يوم السبت إلى "عرس وطني"، بل إلى إعادة تجسيد "مشهد العودة" الذي جسّده الجنوبيون في اللحظات الأولى لتوقف العدوان الإسرائيلي الغاشم، كما جاء في رسالة
رئيس مجلس النواب نبيه بري .
من هنا، يشدّد العارفون على أنّ التصعيد الإسرائيلي ليلة الخميس مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمشهد الانتخابي الجنوبي، ومن السذاجة الاعتقاد بعدم وجود أيّ رابط، فالتوقيت هنا له دلالاته ومعانيه وعِبَره، ولو أنّ الانتهاكات الإسرائيلية لم تتوقف يومًا على امتداد الجنوب، إلا أنّ الشكل الذي اتخذته بعد "إنذار بالإخلاء"، يثير ما يثيره من جدل، أوحى برغبة إسرائيلية بالتشويش على الاستحقاق، وبالحد الأدنى، منع "مشهد العودة" الذي يريده "الثنائي".
هل من "خطر"؟!
لكن، بمعزل عن تحليل الدوافع خلف التصعيد الإسرائيلي المستجدّ جنوبًا، فإنّه أيقظ الهواجس التي كانت مطروحة منذ اليوم الأول للانتخابات البلدية والاختيارية، بل منذ الفترة السابقة لها، حين كان خيار التأجيل قيد الدرس، فما الذي "يضمن" أن يمرّ النهار الانتخابي الجنوبي على خير، من دون أن تستهدف إسرائيل قوافل المرشحين والناخبين مثلاً، وهل من "خطر حقيقي" على هذا المستوى، بعيدًا عن التهويل الذي قد يحبّذه البعض أساسًا؟
حتى الآن، لا إجابات وافية على مثل هذه التساؤلات، وإن أعطى إصرار الحكومة على المضيّ بالاستحقاق مهما كانت الصعوبات انطباعًا بتلقّي نوع من "الضمانات"، وهو ما أكّدته بعض التسريبات الصحفية التي تحدّثت عن معطيات من هذا القبيل، وإن كان الحديث عن "ضمانات" بهذا المعنى يحتاج إلى تدقيق، حتى لو جاء من
الولايات المتحدة ، علمًا أنّ تجارب غير بعيدة تؤكد أنّ "العدو" لا يؤتمَن بأيّ شكل من الأشكال.
من هنا، يقول العارفون إنّ "الخطر" موجود، ولو كان احتماله منخفضًا، إذ من المُستبعَد الاعتقاد بأنّ إسرائيل يمكن أن تستهدف مراكز انتخابية مثلاً في مرحلة "وقف لإطلاق النار"، ولو أنّ محاولتها تخويف الناس قد تبقى على السطح على اللحظة الأخيرة، علمًا أنّ خفض المشاركة الشعبية في الاستحقاق يشكّل "مصلحة" لها، منعًا لتحويل اليوم الانتخابي إلى "استفتاء" يوظّفه "
حزب الله " لمصلحته، على المستوى السياسي والشعبي.
الخطر قائم إذاً، وإن كان مستبعدًا، والحديث عن ضمانات قد يكون واقعيًا، وإن كان قابلاً للأخذ والرد، مع عدوّ ما اعتاد أن يحترم التزاماته وتعهداته، بدليل خرقه اليومي لاتفاق وقف إطلاق النار. لكن، في كل الحالات، ثمّة من يجزم أنّ شعب الجنوب سيصرّ على إكمال الاستحقاق حتى النهاية، ولن يرضخ لأيّ ضغوطات أو تهديدات، بل إنّ الاعتداءات الإسرائيلية قد تشكّل "حافزًا" لتحويل يوم الانتخابات إلى "يوم عودة" آخر!