آخر الأخبار

خيبة 17 تشرين.. بيروت تُعيد الأحزاب الى الواجهة

شارك
بينما كانت الأنظار مشدودة إلى صناديق الاقتراع في بيروت، لم تكن معركة الانتخابات البلدية مجرد استحقاق محلي عابر، بل اختبار سياسي حقيقي لمدى حضور المجتمع المدني وقدرته على ترجمة شعاراته إلى فعل انتخابي. فالمدينة التي لطالما شكّلت واجهةً للاحتجاجات والنقاشات العامة، عادت لتُخضع كل القوى القديمة والجديدة إلى امتحان الشرعية الشعبية. وفي قلب هذا المشهد، جاءت خسارة لائحة "بيروت مدينتي" لتكشف عن أكثر من خلل انتخابي، فكانت الانتخابات البلدية لحظة كاشفة لحالة التراجع، وربما التآكل، التي أصابت "تيار التغيير" في لبنان.

خسارة لائحة "بيروت مدينتي" المدعومة من نواب تغييريين وشخصيات مستقلة ليست مجرد نتيجة انتخابية عابرة، بل تعكس تحولاً أعمق في المزاج الشعبي، وتطرح أسئلة جوهرية حول موقع المجتمع المدني في المعادلة السياسية اللبنانية بعد سنوات على اندلاع انتفاضة 17 تشرين، حيث أن هذه اللائحة التي خاضت المعركة باسم "التغيير" وقدّمت نفسها كامتداد طبيعي للحراك الشعبي، وراهنت على التعبئة المدنية وعلى تراجع ثقة الناس بالأحزاب التقليدية، جاءت نتيجتها لتكشف أن الواقع أكثر تعقيداً، وأن الرهان كان على صورة قديمة لم تعد صالحة للاستثمار السياسي اليوم.

والأهم من ذلك، أن الشارع الذي صوّت سابقاً لقوى التغيير لم يعد مقتنعاً بجدوى من أوصلهم إلى البرلمان، إذ إنّ كثراً من وجوه "الثورة" التي دخلت المجلس النيابي قبل أعوام تحوّلت إلى مجرّد ظاهرة صوتية، لا تملك قدرة التغيير ولا أدوات المواجهة الفعلية، سيّما وأن الناس لم تلمس تغييراً حقيقياً في الأداء أو في النتائج، بل وجدوا أنفسهم أمام خطابات رنانة وصراعات شخصية ومزايدات إعلامية. من هنا فإنّ الفشل البرلماني انسحب مباشرة على صورة التغيير في الوعي العام، فكانت الانتخابات البلدية انعكاساً لنفاد الصبر والإحباط من تجربة بدت واعدة ثم خذلت جمهورها.

من جهتها، خاضت المنظومة التقليدية، بأحزابها كافة، المعركة بلائحة واحدة جمعت الأضداد، من "القوات اللبنانية" إلى "حزب الله" تحت عنوان فضفاض هو "حماية المناصفة". هذا الشعار، رغم سطحيته، كان أكثر فاعلية من كل الخطابات المثالية، لأنه استطاع أن يخاطب الخوف الغريزي لدى جزء من الناخبين. وبعيداً عن التناقضات الصارخة في هذا التحالف، نجحت هذه القوى في تسويق اللائحة كضمانة للاستقرار الطائفي، في حين بدت لائحة التغيير وكأنها تُعاد إنتاجها من أرشيف احتجاجي لم يَعُد له وقعٌ في الشارع.

ترى مصادر مقرّبة من "قوى التغيير" أنّ المجتمع المدني لم يخسر الانتخابات البلدية لأنه ضعيف، بل لأنه فشل في تجديد خطابه وتوحيد صفوفه وتحويل شعاراته إلى بنية انتخابية قادرة على المواجهة، إذ بدا واضحاً في المرحلة الفائتة حجم معاناته مع الانقسام والنزعة الفردية، وعجزه عن مخاطبة هموم الناس اليومية، وبالتالي فهو لم يتمكّن من ترجمة مشروعه السياسي إلى برنامج يلامس وجع المواطن، بل ظل حبيس لغة إنشائية ونخبوية منفصلة عن واقع بيروت والمناطق التي تواجه تحديات معيشية وخدماتية طاحنة.

أما القوى الحزبية التقليدية، فخاضت معركتها بعقل بارد وبراغماتي، مستخدمة أدواتها المجرّبة في التعبئة والتنظيم، وهي لم تكن بحاجة لتبرير تحالفاتها أو شرح تناقضاتها، لأنها تدرك أنّ جمهورها لن يطالبها بذلك، بل يكافئها على قدرتها على حجز مقاعد السلطة بغضّ النظر عن انسجامها السياسي أو خلفيات مرشحيها. وتضيف المصادر أنّ العبرة عند الناخب الحزبي ليست بالمبدأ، بل بالنتيجة، ولهذا استطاعت الأحزاب أن تسوّق تحالفاً انتخابياً يضم خصوم الأمس، فيما عجز المجتمع المدني عن تسويق لائحة واحدة توحّد أطيافه.

النتيجة في بيروت ليست مؤشرًا على نهاية فكرة التغيير، لكنها بالتأكيد لحظة انكشاف مؤلمة لتفكك الفريق الذي يرفع لواءها. ولعلّ خسارة المجتمع المدني لمعركة بيروت تعود الى أنه لم يقرأ الظرف السياسي جيداً، ولم يحصّن نفسه من التكرار ولم يقدّم للناس ما يشبههم. والأهم من ذلك كله أنه فشل في إنتاج بديل سياسي جدّي يُثبت نفسه حين يصل إلى مواقع القرار.

قد تكون بيروت اليوم أعادت الأحزاب إلى الواجهة، لكنها في الوقت نفسه، وجهت للمجتمع المدني دعوة صريحة للمراجعة والتصحيح قبل أن تتحوّل الخسارة إلى نهاية، فما جرى في الانتخابات البلدية لن يبقى محصوراً في بيروت بل من المرجّح أن ينسحب على الاستحقاق النيابي المقبل، سيما وأنّ الوجوه التي خَرَقت المنظومة عام 2022 لم تُثبت نفسها، ما ادّى الى ظهور ملامح التراجع في التأييد الشعبي الذي بدا وكأنه انسحاب تدريجي صامت. وإن كان المجتمع المدني قد خسر المجلس البلدي اليوم، فإنّ نوابه مهددون بخسارة ثقة الشارع غداً، وربما إلى الأبد، ما لم يُعاد تصويب المسار.
لبنان ٢٤ المصدر: لبنان ٢٤
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا