في قرية جبلية ، وجدت من خلالها الأمن والأمان، تجلس أم محمد (45 عامًا) على فراش متواضع في غرفة مستأجرة بالكاد تتّسع لها ولأطفالها الأربعة. جاءت من قريتها الحدودية "مارون الراس" هاربة من القصف والنار، لتجد نفسها اليوم في عزلة قسرية عن كل ما كان يومًا وطنًا وحياة. منزلها الذي رَبّت فيه أبناءها صار ركامًا وجدرانًا سوداء، لا تصلح حتى للذكرى. تهمس بصوت يختنقه البكاء: "اتفقوا على وقف إطلاق النار، لكننا ما زلنا هنا.. بلا مأوى، بلا مستقبل". ليست أم محمد استثناءً في هذا المشهد الإنساني القاسي. فعلى الرغم من إعلان اتفاق وقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني، وعودة نحو 90% من النازحين إلى قراهم خلال أيام، لا تزال عشرات الآلاف من العائلات، مثل عائلة أم محمد، عالقة في دوامة النزوح، تتأرجح بين الانتظار واليأس، في ظل غياب الدعم الكافي وخطط الإيواء الفعالة.
هذه الحالة تسري على أكثر من 90 ألف نازح من الجنوب وبيروت، لا تزال أمور عودتهم معلّقة، فما بين الضربات
الإسرائيلية المفاجئة، والبيوت المهدمة، بالاضافة إلى تعمّد
إسرائيل تدمير أي خطوة يسعى من خلالها الجنوبيون الى إعادة الحياة إلى بلداتهم، تكون إسرائيل لهم بالمرصاد، ومن أبرزها مؤخرا عدم السماح للجنوبيين بوضع بيوت جاهزة، إذ يعمد الطيران الحربي الاسرائيلي على تدميرها بمجرد وضعها، وذلك في إشارة واضحة الى أنّ العودة إلى المنازل ولو كانت مدمّرة غير مسموح بها حاليا.
وحسب معلومات خاصة حصل عليها "
لبنان24 "، فإنّ ما يقارب 91950 شخصا لم يعودوا بعد إلى منازلهم المدمّرة بشكل كليّ، وهذه الأرقام تشكّل دمار 35% من المساكن في القرى الحدودية، وهي نسبة تفوق الأضرار التي خلّفتها الحرب عام 2006.
فعلى سبيل المثال تعاني إحدى القرى الحدودية إلى حدّ الآن من فقدان البنية التحتية الأساسية، إذ ان 70% منها لا تزال خارج الخدمة، بما في ذلك شبكات المياه، والكهرباء، ما يجعل العودة إليها شبه مستحيلة. وهذه العودة، دفعت بأم محمد، تماما مثل عشرات الآلاف الذين يعيشون نفس معاناتها إلى البقاء في مراكز إيواء محددة، أو استئجار نفس المنزل مع أكثر من عائلة،وفعليا لا تزال هناك عائلات بأكملها تعيش في مساحات وغرف صغيرة تتقاسمها مع عائلات أخرى، وحسب الأرقام التي حصل عليها "لبنان24" فإنّه لا يزال أكثر من 157 ألف شخص ونازح يعتمدون على المعونات والمساعدات الحكومية أو التي تقدمها الجمعيات.
وحتى أولئك الذين عادوا إلى قراهم، يواجهون كابوسا آخر، والصور المتناقلة، وطلبات المساعدة التي تأتي إلى الجهات المختصة يوما تلو الآخر، تؤكّد أنّ المنازل المتضررة جزئيا لا تقل خطرًا عن أي وضع آخر، إذ إنّ الأهالي الذين عادوا إليها، حاولوا وبصعوبة بالغة سدّ الفجوات، وإصلاح الاضرار بطرق تقليدية، كوضع البلاستيك، أو إصلاح بعض الثقوب، إلا أنّ المصيبة الأكبر تتجلى بتلك البيوت المتضررة جزئيا، والتي من الممكن أن تنهار على رؤوس قاطينها بين الحين والآخر.
وحسب الأرقام ، فإنّ 55% من العائدين إلى منازلهم في الجنوب يقطنون في منازل مضرّرة جزئيا، ويرى مصدر محلي جنوبي تواصل معه "لبنان24" بأنّه وإن غابت الأزمة الإنسانية في الجنوب عن عناوين الأخبار، فإنّ هؤلاء يعانون بصمت، ولا أحد يلتفت إليهم، وفي حال التفت أحد، فإنّ العدو سيكون جاهزًا لنسف أي مساعدة.والمصيبة الأكبر لا تتوقف على اللبنانيين فقط، إذ إنّ النازحين السوريين قد تضاعفت أزماتهم، فمن ناحية أولى نسفت الحرب كل ما يملكونه في مناطق تواجدهم، أو أفقدتهم فرص العمل التي كانت تتركز في قطاعي البناء والزراعة، ومن ناحية أخرى، فاقم القرار الأميركي بقطع المساعدات عنهم المشكلات التي يواجهونها، إذ بات بحكم المؤكّد أن المساعدات التي كانوا يتلقونها من
المفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وبرنامج الأغذية العالمي لن يحصلوا عليها.
وحسب أرقام "لبنان24" فإنّ فقط ما يقارب 38 ألف شخص لا يزالون يستفيدون من المساعدات فقط.
كل ذلك ينذر بأزمة خطيرة، ومع بدء فصل الصيف وارتفاع الحرارة، وعدم معالجة مخلفات العدوان، فإنّ الأمور ستصبح أخطر بكثير، ولن يكون بمقدور هؤلاء البقاء شتاءً آخر من دون مأوى، وهذا ما قد يؤسس لخضة كبيرة، قد تواجهها الحكومة، طالما لا تزال عملية
إعادة الإعمار بعيدة المنال.