تكتسب الانتخابات البلديّة والاختياريّة في دورتها الحاليّة أهميّة استثنائيّة، كونها تجري في ظل متغيّرات على الساحة المحليّة لا سيّما المسيحيّة منها، لعلّ أبرزها، خروج
التيار الوطني الحر من الحكم بعد استئثاره بالسلطة لسنوات، وواقع
حزب الله الجديد بفعل انخراطه بجبهة الإسناد ومفاعيلها الداخليّة. كما تختبر هذه الانتخابات للمرة الأولى تبعات سقوط تفاهم مار مخايل بين
التيار والحزب، وتأثيره في الحسابات الانتخابيّة.
وعلى رغم الطابع الإنمائي للاستحقاق البلدي، تدخل السياسة من البوابة البلديّة، فيأخذ التنافس بعدً امتشابكًا، يختلط فيه الحابل العائلي بالنابل الحزبي، هذا فعلًا حال البلديات من أصغرها حجمًا وصولًا إلى المدن الكبرى، حيث تستعر المواجهة بين الأحزاب التقليديّة والفعاليات وشخصيات من
المجتمع المدني . ونظرًا للعامل السياسي الذي يفرض نفسه على المحطّة البلدية والاختيارية، هل تشكّل نتائج الانتخابات البلدية اختبارًا لميزان
القوى السياسية وحجم تمثيلها استباقًا للانتخابات النيابية المقررة في ربيع 2026؟
الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين لا يرى في المشهد البلدي مؤشّرًا على حجم تمثيل القوى السياسية في الانتخابات النيابيّة، انطلاقًا من أنّ الإقتراع في كلّ منهما مختلف عن الآخر "في الانتخابات البلديّة يقترع الناخب وفقًا لحسابات عائليّة ومحليّة وخدماتيّة تسبق الحسابات السياسيّة. أمّا في الانتخابات النيابيّة فيقترع الناخب وفقًا لحسابات سياسيّة فقط. كما أنّ النظام الانتخابي مغاير بين الاستحقاقين، فالانتخابات البلديّة تُخاض وفق النظام الأكثري، فيما تجرى الانتخابات النيابيّة وفق النظام النسبي القائم على الصوت التفضيلي والحاصل الانتخابي. من هنا تختلف طريقة الإقتراع بين الاستحقاقين وكذلك عملية الفرز والاحتساب، ما يجعل نتائج كل منهما مغايرة تمامًا، ولا يمكن بالتالي قياس حجم التمثيل الشعبي للأحزاب انطلاقًا من نتائج الإنتخابات البلديّة". شمس الدين وفي حديث لـ "
لبنان 24 " يشير إلى الفارق بين الاستحقاقين بإعطاء مثال "في حال نال مرشحون ينتمون سياسيًّا إلى حزب معين أكثريّة الأصوات في بلدات قضاء ما، بمجموع يبلغ 29 ألف صوت، من أصل 50 ألف مقترع في
القضاء ، مقابل حصول المنافسين على 21 ألف صوت، سيكتسح الحزب الذي نال الأكثريّة معظم المقاعد البلدية في بلدات القضاء، ويخسر منافسه بالكامل. أمّا في عملية فرز الأصوات نفسها في الانتخابات النيابيّة فستكون النتائج مغايرة، ففي حال كان هناك خمسة مقاعد نيابية في القضاء، سيحصد الفريق الذي نال 21 ألف صوت حصّة نيابية قد تكون موازية للفريق الأول الذي نال 29 ألف صوت، حيث ينال الأول ثلاثة مقاعد والثاني مقعدين، لأن حسابات النظام النسبي تختلف عن الأكثري المعتمد في الانتخابات البلدية". من ناحية ثانية، التحالفات التي حصلت بين القوى السياسية بلديًّا، قد لا تُستنسخ نيابيًّا، خصوصًا أنّ للانتخابات النيابيّة حسابات مختلفة ربطًا بالصوت التفضيلي والحاصل الانتخابي.
مواجهة محتدمة في الدوائر
المسيحية
رغم عدم امكان إسقاط نتائج الانتخابات البلديّة على النيابيّة، بفعل الحسابات العائليّة والفارق في النظام الانتخابي، إلّا أنّ الأحزاب والقوى السياسيّة تتعاطى مع الاستحقاق البلدي والاختياري بزخم كبير، وترى فيه اختبارًا لاحجامها الإنتخابيّة، لاسيّما وأنّ خارطة التحالفات تبدّلت منذ الانتخابات البلديّة السابقة قبل تسع سنوات، كما تغيّرت الأحجام السياسيّة، خصوصًا في الدوائر ذات الغالبيّة المسيحيّة. من جهة ثانية، لا يمكن إغفال الدور الذي قد يلعبه أركان السلطات المحليّة، لاسيّما المخاتير ورؤساء البلديات كمفاتيح انتخابيّة، في الانتخابات النيابيّة بعد عام.
انطلاقًا من هنا تشهد هذه الدوائر منازلة سياسيّة خلف الستار البلدي، لا سيّما بين القوات والكتائب من جهة والتيار الوطني الحر من جهة ثانية. على جبهة الأخير، تبدّلات كثيرة حصلت منذ الانتخابات البلدية السابقة، فالتيار البرتقالي الذي كان يحتل المركز الأول مسيحيًّا على الخارطة الانتخابيّة بحصوله على أكبر كتلة نيابية، تراجعت شعبيته في الانتخابات النيابيّة السابقة، لصالح
حزب القوات اللبنانية ، واشتعلت الخلافات داخل كتلته انتهت بانسحاب أربعة نواب، ناهيك عن فرط التفاهم بينه وبين حزب الله على خلفية الحرب الأخيرة، يضاف إلى كل ذلك، تزامن الانتخابات مع خروجه من "جنّة الحكم" إلى
المعارضة للمرة الأولى، كل هذه الوقائع لا بدّ وأن تنعكس في المشهد البلدي.
التيار والحزب من جزين إلى
زحلة
عن كيفية اختبار نتائج انفصال حزب الله والتيار الوطني الحر في المشهد الانتخابي، يلفت شمس الدين إلى أنّ ذلك لن يظهر في انتخابات المرحلة الأولى في
جبل لبنان ، حيث يشكّل قضاء
بعبدا مسرحًا لتواجد مقترعين مناصرين للفريقين، لاسيّما في حارة حريك،وهما متحالفان فيها. كذلك لا يمكن اختبار انفصال الفريقين في قرى قضاء جبيل، لأنّ القرى الشيعيّة الكبرى في القضاء كبلدتي علمات ولاسا، لا يوجد فيها مقترعون مشتركون، أمّا القرى الأخرى فهي صغيرة ولا تأثير فيها. بالمقابل هناك دوائر أخرى تشّكل اختبارًا حقيقيًّا لنتائج تباعد الفريقين أو تلاقيهما، وهذه الدوائر هي زحلة وبعلبك والبقاع
الغربي ، وقضاء جزين الذي يشكّل اختبارًا ومؤشرًا في هذا الإطار، حيث جرت العادة أن لا يحصل تحالف بين التيار والثنائي
الشيعي في جزين، وهناك أجواء تشير إلى امكانيّة التحالف، من هنا لا زال الأمر مبكرًا طالما أنّ التحالفات غير نهائيّة وتخضع لتبدّلات عشيّة الانتخابات، كما حصل في زحلة بفرط التحالف بين القوات والكتلة الشعبيّة، وفي جونيه أيضًا بانسحاب جوان حبيش من المعركة.