كانت لافتة هذه "الهجمة" السياسية على معايدة العمّال في عيدهم. لم يبقَ سياسي واحد إلاّ وتوجه بالتهنئة إلى عمّال لبنان ، الذين هم الأساس في أي مشروع انمائي، أو عمراني، أو زراعي، أو انتاجي في مختلف الحقول وفي الوظائف العامة والخاصة. وقد يكون جميع الذين تسابقوا على تهنئة هؤلاء العمّال في عيدهم من أرباب العمل، ومن أصحاب المؤسسات المرموقة، التي تعاني من أزمات ومشاكل اقتصادية ومالية كثيرة شأنهم ربما شأن جميع العمّال والموظفين، الذين يعملون في هذه المؤسسات. وقد يكون همّهم في تأمين الاستمرارية يوازي همّ هؤلاء العمّال، الذين يلاحقون العملة الخضراء المسيطرة على حياتهم اليومية في شكل جنوني. فهم يركضون وراءها وهي تسابقهم في امتصاص ما تبقّى لهم من حيل وقوة فيما لسان حالهم أن "لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم"، وهم يردّدون مع الشاعر "عيد بأي حال عدت يا عيد ".
فهذا العيد ما هو إلاّ مناسبة لوضع الملح على الجروح وتأليب المواجع. في هذا العيد يتذكّر عمّال لبنان أن حقوقهم مهدورة، وأنهم متروكون لأقدارهم، وهم يحاولون بشتى الطرق أن يؤمّنوا
حياة كريمة لعيالهم، فنراهم يوصلون الليل بالنهار وهم يكدّون ويتعبون كي لا ينقص عن أولادهم ما هم في حاجة إليه، وبالأخصّ في ما يتعلق بالأقساط المدرسة والطبابة والسكن ما عدا المأكل والمشرب والملبس، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان "المثلث الميمي": مستشفى، مدرسة، مسكن. وما عدا ذلك فهو يدخل في خانة المتممات الضرورية لعيش بسيط في حدّه الأدنى. فمتى تأمّن الأمن الصحي والأمن التعليمي والأمن السكني يبقى الأمن الغذائي متروكًا لـ "المافيات" على تعدّد أنواعها وتلاوينها، التي تحاول أن تمتصّ دم الشعب المغلوب على أمره وليس لديه سوى اللجوء إلى الرحمة الإلهية "لأن الشكوى لغير الله مذلة".
فالدولة بمؤسساتها العامة لأعجز في وضعها الحالي من أن توفي العامل أو الموظف حقّه في أجر يمكّنهم من تحّمل قساوة الحياة وقد أصبح الغلاء والتضخم سمتين عالميتين. فجميع العمّال في مختلف دول العالم مهدورة حقوقهم، وهم غير قادرين على مواجهة هذه الموجة العالمية من الغلاء الفاحش، الذي يجعل الحياة صعبة إلى أقصى درجات الصعوبة، خصوصًا أن
لقمة العيش قد أصبحت مغموسة
بالدم المجبول بعرق
الجبين .
فإذا كانت حال شعوب العالم على هذا المنوال فماذا يمكن أن يُقال عن عمّال لبنان بعدما بات ما نسبته ثمانين في المئة من الشعب اللبناني تحت خطّ الفقر المدقع.
ففي بلاد العالم ضمانات اجتماعية على رغم الظروف القاسية، التي تعيشها الطبقات العاملة والساعية وراء لقمة عيشها. ومن بين هذه الضمانات توفير الطبابة للجميع من دون استثناء. فلا يموت مريض مثلًا على أبواب المستشفيات، فيما الدواء مؤّمن بأسعار مدعومة بما يتناسب مع وضعية كل فرد من الناحية الاجتماعية. وتزامنًا مع هذه الضمانات تأتي مجانية التعليم في المدارس الحكومية لتغطي نقصًا مرتفع النسب، وهي تنافس في جودة التعليم المدارس الخاصة، التي هي حكرٌ على فئة ميسورة من الناس، فيما يبقى الأمن السكني خاضعًا لحركة
العرض والطلب، مع الإشارة إلى
الدولة الكندية على سبيل المثال لا الحصر تؤّمن شققًا سكنية للفئات الأقل حظًّا من غيرهم، مع ضمان معيشة كريمة ومقبولة لكبار السن، أو ما يُسمّى بـ "ضمان الشيخوخة". وهي حقٌ لجميع المواطنين، الذين يبلغون سن التقاعد.
هذا في بلاد العالم التي تحترم شعوبها وانسانيتهم. أمّا في لبنان فلا شيء من كل هذا مؤمن باستثناء ما تقدمه
المستشفيات الحكومية من خدمات غير موثوق بها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المدارس الرسمية "المعارف"، التي تحتاج إلى عناية أكثر من حيث تأمين مبانٍ لائقة ومجهزّة بالحدّ الأدنى من المقومات الأساسية لتوفير الأجواء الملائمة للطلاب، الذين أثبتوا من خلال نتائج الامتحانات الرسمية أنهم من المتفوقين على أقرانهم في المدارس الخاصة، وذلك لأسباب عديدة، ومن بينها الاجتهاد الشخصي للطلاب، الذين يعانون من حالة اجتماعية معينة، وذلك تعويضًا عمّا فاتهم من كماليات العيش اللائق والكريم.
فالجميع عيدّوا بالأمس إلاّ العمّال، الذين وضعوا أيديهم على خدودهم منتظرين أن يخرج من مدخنة السراي الحكومي الدخان الأبيض بالنسبة إلى تصحيح الأجور ورفع حدّها الأدنى بما يتناسب مع صعوبة العيش اليومي.