لو أردنا أن نعود بالذاكرة خمسين سنة إلى الوراء لكي نستعيد بعضًا من مشاهد ذاك الأحد، وفي الأحياء الداخلية الضيقة لمنطقة عير الرمانة، لأكتشف كل منا، نحن المسمّون "جيل الحرب"، أن البداية كان مخطّطًا لها أن توصل البلاد إلى ما وصلت إليه من حروب متواصلة بدأت بـ "حادثة بوسطة" بعد اغتيال أول شهيد في هذه الحروب هو جوزف أبو عاصي، وهو خارج من كنيسة قريبة جدًّا من موقع حادثة "البوسطة". الصدفة لم يكن لها مكان في هذه الحادثة، بل يمكن القول ، وبعد خمسين سنة، إن الذين أرسلوا هذه "البوسطة"، وفيها نساء ورجال من مخيمات صبرا وشاتيلا، لكي تعبر منطقة كانت "تغلي" على أثر استشهاد أبو عاصي، كانوا يدركون أن ردّة فعل أهالي عين الرمانة ستؤدي إلى ما أدّت إليه فكانت بداية الحرب، التي لم تنتهِ إلاّ بعدما أسكت اتفاق الطائف مدفعها، التي كانت بين الفلسطينيين والأحزاب المسيحية، وعلى رأسهم حزب الكتائب اللبنانية ، لتتحوّل بعد ذلك إلى حرب أهلية بين أبناء الوطن الواحد بعدما ناصر فريق من اللبنانيين القضية الفلسطينية ضد فريق آخر من اللبنانيين، مع ما رافق ذلك من دعوات لعزل الكتائب.
ففي الذكرى الخمسين لـ 13 نيسان (1975 – 2025) أجيال
كاملة طوتها الأيام، منها ما كان حلوًا، وهي تُعدّ على الأصابع لقلّتها، ومنها ما كان مرًّا، وهي أكثر من أن تُعدّ أو تُحصى.
خمسون سنة، أي نصف قرن، ليست قليلة. من لا يزال على قيد الحياة اليوم كان في ذاك اليوم في مقتبل العمر، ونحن منهم. فلم نرَ من هذه الحياة سوى المتاريس وخطوط تماس وقذائف، وانفجارات، ورعب ومآسٍ. أمّا الذين رحلوا فعاشوا فترة من الزمن
الجميل قبل هذا التاريخ وقبل أن يخطفوا منا أحلامنا.
صحيح أن الوقوف على الأطلال لم يعد يجدي ، وبالتالي لم يعد البكاء والنحيب يجديان نفعًا، لأن ما تركته هذه الحرب من
آثار سلبية خطيرة في وجدان المواطن اللبناني، وقطّعت أوصال الوطن وحولته الى "دويلات" لا تزل تتناحر حتى يومنا هذا، وإن بأشكال مختلفة، بفعل الانقسامات السياسية التي توحي بين الحين والآخر بأن لا شيء تغيّر، وبأن لا أحد مستعدّ للتنازل عن الذهنية التي أدّت إلى اندلاع شرارة الحرب، التي يجمع كثيرون على أنها كانت كارثية ومأسوية وعبثية، مع ما يرافق الممارسة السياسية من تخطٍّ للخطوط الحمر والتوازنات القائمة حتى داخل البيئة الواحدة، لأن 13 نيسان لم يكن التاريخ الوحيد في
سلسلة حروب لا تزال مفاعيلها مؤثرة في الحياة السياسية الراهنة، القائمة على إلغاء الآخر وممارسة سياسة "العزل"، التي أصبحت مفرداتها متحكّمة في تفاصيل هذه السياسة.
فما أشبه اليوم بالأمس، مع أن الجميع يطلقون شعار "تنذكر وما تنعاد"، حيث إن الخطوط التي رسمتها بعض الدول كانت تستخدم اللبنانيين وقودًا لحروبها البديلة، تنفيذًا لأجندات خاصة بها، مع تبدّل الظروف وبعض الأسماء، فيما
إسرائيل هي هي اليوم والأمس، وهي لا تنفك تهدّد
لبنان يوميًا، وتخرق سيادته، جوًّا وبحرًا وبرًّا، وهي مستمرة في مخططاتها العدوانية، فيما نحن لاهون عنها بخصوماتنا الفردية والجماعية وبتركيب كل واحد منّا دويلته، ولو على حساب الدولة المركزية. مع كل 13 نيسان ومنذ خمسين سنة نقول "تنذكر ولا تنعاد"، مع ما يعنيه ذلك بأنه علينا أن نتذكّر، ولكن علينا أيضًا أن نعمل لكي لا "تنعاد ".
لا شك في أن الحرب اندلعت عند تقاطع عوامل إقليمية ودولية باتت معروفة، وإن لم تُكتب كل التفاصيل في
كتاب تاريخ واحد، وهي التي أشعلت فتيل الانفجار ومدّته بالوقود للاستمرار، ولكن وبعد مرور خمسين سنة على "حادثة البوسطة" يبقى
السؤال جائزًا ومطروحًا بقوة: هل كانت الحرب يا ترى لتندلع لو لم يكن اللبنانيون مهيأين لها. قد يقول البعض أنه من المهم جدًّا أن الحرب الأهلية قد
انتهت وأنها أصبحت وراءنا، مع أن البعض الآخر يطرح أكثر من سؤال ويرسم أكثر من علامة استفهام ويضعها في خانة جميع الذين هم اليوم في السلطة، ومن بين هذه الأسئلة:
- هل انتهت عقلية الحرب الأهلية مع ما يصحبها من ممارسات تبدو غير بعيدة في المنطق عن ممارسات الحرب؟
- قياسًا إلى ما يشهده اللبنانيون على مدار الساعة فإن التساؤل عن الحرب الباردة كبديل عن ضائع يبقى مشروعًا وجائزًا.
- هل انتهى منطق تخوين بعضنا البعض وتبادل الاتهامات حول مسؤولية ما آلت إليه أوضاعنا من تدهور اقتصادي ومالي؟
- هل انتهى الاصطفاف الطائفي والمذهبي، وحلّت مكانهما المواطنة أو بوادر الدولة المدنية؟
-هل انتهى الشعور لدى البعض بالغلبة والاستقواء بالخارج، أيًّا كان هذا الخارج؟
- هل تحققت المشاركة الفعلية والتوازن الحقيقي بين جميع المكونات السياسية؟
- هل توافقنا على تحديد المفاهيم المشتركة حول علاقات لبنان الخارجية؟
- هل بلغنا مرحلة من النضوج السياسي، الذي يسمح لنا بالتسامح والتضامن وقبول الآخر والاعتراف به؟
-هل تحققت المصالحة الوطنية الحقيقية الشاملة؟
-هل وصل المواطن العادي إلى حقه بالعيش في بلد مستقر وآمن؟
-هل استشهد من استشهد في انفجار المرفأ حتى يضيع حقهم في دهاليز الخلافات السياسية وتغييب دور
القضاء العادل؟
-هل استفدنا حقًّا من "ثورة 17 تشرين"؟
- هل سيتمّ تسليم
سلاح "
حزب الله " إلى الدولة اللبنانية، وهل سيتمكّن الجيش من بسط سلطة
الدولة على كل شبر من الأراضي اللبنانية؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير تحضر في هذه الذكرى، التي يجب أن تبقى مجرد ذكرى وعبرة لمن يعتبر، فلا تذهب دماء اللبنانيين، في أي موقع كانوا، سدى وهباء، ولكي لا نعود بالحاضر إلى الوراء خمسين سنة.
خمسون سنة طويت من
حياتنا ومرّت كأنها "متل مبارح". لا شيء تغيّر باستثناء الشيب الذي غطّى مفارق شعر رؤوس جميع الذين شاركوا في هذه الحروب بشكل أو بآخر.
ونسأل مع السائلين: هل حان الوقت لطي صفحة الماضي غير المأسوف عليه، وهل سنتخّلى عن ذهنية الاستقواء بالخارج، وهل سيتصالح اللبنانيون بعد تنقية ذاكرتهم الجماعية عبر مصارحة جدّية ومن دون أحكام مسبقة وخلفيات ونيات مبيتة؟