ما يتعرّض له
لبنان من ضغوطات خارجية ليس بالأمر السهل، خصوصًا مع
بداية عهد جديد يؤمل في أن تكون انطلاقته غير متعثرة وغير معرّضة للاهتزاز.
لأن من شأن أي دعسة ناقصة، في حال حصولها، أن تجرّ البلاد إلى وضع قد يكون أسوأ مما كان عليه قبل أن ينتخب العماد جوزاف عون رئيسًا للجمهورية بعد سنتين وثلاثة أشهر تقريبًا من فراغ أوصل البلاد إلى الحال، التي لا يُحسد عليها، والتي حاول
الرئيس
نجيب
ميقاتي مع حكومته المقيّدة بـ "تصريف أعمال" ضيق الصلاحيات، إنقاذ ما يمكن إنقاذه والحؤول دون الانهيار الشامل، مع ما كان يواجهه من عراقيل توضع في دواليب مسيرته الإنقاذية، وما كان يتلقاه من سهام واتهامات مغرضة بصدر رحب من الجهات الأربع، وبصبر قلّ مثيله، وشجاعة لا مثيل لها اعترف بها القاصي والداني، تمامًا كما لم يستطع أن ينكرها
الغريب قبل القريب.
لا أحد من اللبنانيين
الذين لم يصدّقوا أعينهم بأنه قد أصبح لديهم
رئيس للجمهورية قد أعاد إلى هذا المنصب المتقدّم الحساس والمرموق قيمته ومكانته التاريخية كمركز ثقل في القرارات اللبنانية أن يصل العهد الجديد إلى ما وصل إليه العهد الذي سبقه، خصوصًا أن هذه الخيارات افتقدت لفترة من الزمن إلى حرية الخيار، وذلك من خلال اعتماد سياسة لبنانية خارجية واضحة المعالم وخالية من أي زغل، وبالأخصّ في ما يتعلق بالصراعات الإقليمية، التي لم تؤدِّ في السابق سوى إلى إدخال
لبنان في مزيد من التعقيدات والمشاكل، التي انعكست تشتّتًا وتخبّطًا في الموقف اللبناني، الذي لم يكن يومًا موحدًّا حول الخيارات غير المتأثرة بالخارج بطريقة أو بأخرى، حتى أن بعض القوى السياسية كانت تنتقد دائمًا السياسة الخارجية، التي كان يعتمدها وزراء الخارجية السابقون،
الذين كانوا ينتمون إلى جهة سياسية واحدة، والتي لم تكن تقدّم المصلحة اللبنانية كخيار أول على المصالح الإقليمية الأخرى.
فإذا عاد أي متبحّر في الشأن الاستراتيجي إلى مضامين خطاب القسم والكلمة التي ألقاها
الرئيس عون في القمة العربية الطارئة في القاهرة لا بدّ له أن يلاحظ أن في هذه المواقف خطًّا بيانيًا واضحًا بالنسبة إلى السياسة الخارجية التي سيزمع العهد على انتهاجها حتى ولو عارضها من لم يعتد أن يكون للبنان سياسة تعتمد على الحياد الإيجابي في تعاطيه مع الأزمات والصراعات التي يبدو أن لا نهاية لها، وبالأخصّ في ما يتعلق بالأزمة السورية الآخذة في التفاعل، في ظل تكاثر النزوح السوري من لون مذهبي معيّن إلى منطقة لبنانية معروف انتماؤها. ويتخّوف كثيرون من أن يؤدّي هذا النزوح الجديد إلى احتدام الخلاف بين أهالي هذه المنطقة والنازحين الجدد على خلفية ما شهده بعض المناطق في الشمال، والذي أدّى تدخل الجيش إلى وأد الفتنة في لحظة مفصلية كادت تعيد هذه المناطق إلى ماضٍ أسود من تاريخ الاقتتال المذهبي.
فالحياد بمفهومه الإيجابي في رأي الحلقة الضيقة من مستشاري
رئيس الجمهورية هو الخيار الإنقاذي الوحيد لتجنيب
لبنان الانغماس في متاهات غير محسوبة النتائج، خصوصًا أن ما يُفهم من هذا الحياد هو الوقوف على مسافة واحدة من قضايا المنطقة من دون أن يكون
لبنان مضطّرًا لاتخاذ أي موقف انحيازي مع هذا الطرف ضد الطرف الآخر، وذلك استنادًا إلى تجارب الماضي، التي أدّت إلى تعميق الانقسام اللبناني الداخلي، والذي اتخذ في كثير من الأحيان طابعًا حادًّا دفع بالبعض إلى التفكير الجدّي بالذهاب في خياراته الأحادية إلى ما يناقض مبدأية التنوع من ضمن الوحدة، التي تبقى من ضمن الأهداف المتقدمة في الخيارات الرئاسية الأولى، مع سعي جدّي ودائم لتثبيت ركائز هذه الوحدة، والذي سبق أن اعتمده
الرئيس عون طيلة تولّيه مسؤولية قيادة الجيش فأستطاع بحكمة ودراية أن يحافظ على وحدة المؤسسة العسكرية، التي لم يشبها شائبة واحدة طوال هذه الفترة من قيادته.