من غير المنطقي ألاّ تعكس التشكيلة الحكومية الجديدة ما أبلغته الكتل النيابية والنواب للرئيس المكّلف القاضي نواف سلام من توجهات عامة أثيرت خلال الاستشارات غير الملزمة. وعلى هذا الأساس يعتقد كثيرون أن المسار الذي ستسلكه مراحل التشكيل سيأخذ في الاعتبار ما تمّ طرحه من هواجس مشتركة لدى جميع اللبنانيين. ما يريده الشعب اللبناني من العهد الجديد ومن الحكومة، التي يؤمل في أن تبصر النور بسرعة هذا النور، هو أن تتمكّن من وضع العربة على السكّة الصحيحة، ولو بخطوات تراكمية ومتواضعة، حتى ولو كانت صغيرة. وهذا الأمر لن يتحقّق إن لم تتخذ هذه الحكومة الموعودة شعارًا أساسيًا لها ألا وهو "اليد الممدودة" من ضمن سياسة عامة تقوم على أساس المساواة بين الجميع بعد طي صفحة الماضي السوداء، والتي كان للجميع تقريبًا مساهمات سلبية في ترسيخها على أرض الواقع يوم تركوا رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي "يباطح" لوحده من أجل إبقاء البلد واقفًا على رجليه والحؤول دون انهياره بالكامل.
ولكي تُطوى هذه الصفحة وتذهب أدراج رياح التغيير يُفترض أن تعتمد الحكومة العتيدة سياسة انفتاحية على جميع مكونات النسيج اللبناني بكل أحزابه وطوائفه ومذاهبه ومناطقه تحت شعار "اليد الممدودة". وهذا الشعار لمسه اللبنانيون على أرض الواقع السياسي عبر ما سمعه الرئيس المكّلف من أغلبية القوى السياسية، وبالأخصّ في محور "المعارضة" السابقة، والتي تحّولت مع انتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف القاضي نواف سلام إلى محور الموالاة لمسيرة عودة الدولة إلى الدولة، من كلام جامع بالنسبة إلى عدم الذهاب في الاتجاه المعاكس، أي عدم إقصاء أي مكّون من المكونات اللبنانية من ضمن سياسة واضحة المعالم والأهداف. والمقصود بذلك "الثنائي الشيعي"، ولكن شرط أن يتماهى هذا المكّون مع سياسة العودة إلى الدولة، وألا يقصي نفسه بنفسه تمامًا كما فعل المسيحيون في العام 1992 يوم قرروا مقاطعة الانتخابات النيابية فسقطوا في تجربة ما سمي وقتها بـ "الإحباط المسيحي".
فإذا غلّب اللبنانيون شعار الرئيس الراحل صائب سلام "لا غالب ولا مغلوب" يتخطّون بذلك منطقة الخطر لتبدأ مرحلة جديدة من الحياة السياسية بعد اكتمال عقد تكوين السلطة وانتظام عمل المؤسسات، والانخراط في مشروع إعادة بناء الدولة على أسس صحيحة وسليمة، وبالتالي إعادة اعمار ما هدّمته إسرائيل من منازل ومؤسسات ودور عبادة ومستشفيات ومدارس في الجنوب وبيروت والبقاع.
أمّا إذا قوبلت سياسة "اليد الممدودة" بممارسة سياسة الانكار ورفض التقدّم خطوات في اتجاه الفريق الآخر الداعم للعهد برئيسه ومسؤوليه فلن تقوم للوطن قيامة وسيبقى قابعًا على طرقات الانتظار المحفوفة بكل أنواع الأخطار. فإعادة بناء الدولة ومؤسساتها لن تكون بأن يقصي "حزب الله" نفسه بنفسه، بل بأن ينخرط في منظومة التعافي، التي ستفرض نفسها بنفسها. فقطار العهد يستعد للانطلاق بقوة. ومتى انطلق فلا شيء يمكن أن يوقفه. وما على "حزب الله" سوى انتهاز الفرصة للصعود في هذا القطار، الذي لن يعود إلى الوراء، ولو خطوة واحدة. فمن أراد أن تكون لديه مساهمات انقاذية ما عليه سوى عدم تفويت هذه الفرصة، وإن كان البعض يميل إلى إعطاء "الثنائي الشيعي" الوقت الكافي لكي يستوعب كل ما حصل بدءًا من انهيار نظام البعث في سوريا، مرورًا بانتخاب العماد عون رئيسًا للجمهورية، ووصولًا إلى اتفاق وقف النار في قطاع غزة. ومن شأن إعطاء "حزب الله" الوقت الكافي لكي يقرّر توقيت الانخراط التلقائي في مشروع الدولة. ومن بين أهم ما عليه أن يقدم عليه هو ملاقاة العهد إلى منتصف الطريق، وهو الذي كان من بين المساهمين في إيصال الرئيس عون إلى بعبدا، ولو بعد "سيناريو" تأجيل الجلسة الثانية لساعتين.
أمّا الخطوة الأكثر أهمية في خطة التعافي فهي عدم حرق المراحل والسير نحو الهدف المنشود بخطوات واثقة ومتأنية ومن دون تهوّر وسلق الحلول الممكنة سلقًا.