يرى محللون وخبراء أن إسرائيل تواجه تداعيات إستراتيجية عميقة أفرزتها حرب غزة، من بينها تراجع تأثير السردية الإسرائيلية في الغرب، وتصاعد الضغوط القانونية والدبلوماسية، واتساع العزلة الدولية، إلى جانب بروز انقسام داخلي حاد بين المستويين السياسي والأمني.
ويؤكد المحللون -في مقابلات مع الجزيرة نت- أن الحرب التي راهن عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتحقيق "نصر حاسم" انتهت إلى نتائج عكسية، تمثلت في فقدان المكانة الدولية، وتفكك الثقة بالمؤسسة الحاكمة، وتحول المزاج العالمي لصالح القضية الفلسطينية.
ويؤكد ذلك ما جاء في تصريحات السياسيين الإسرائيليين أنفسهم بشأن الأضرار التي لحقت بإسرائيل نتيجة عدوانها على غزة لمدة عامين، وراح ضحيتها أكثر من 70 ألف شهيد ونحو 170 ألف مصاب.
ومن ذلك ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت -أمس السبت- إن إسرائيل فقدت دعم معظم العالم الغربي بسبب السياسات التي تتبعها حكومة نتنياهو. في حين اعتبر زعيم المعارضة يائير لبيد -خلال تصريحات الاثنين الماضي في أثناء جلسة برلمانية- أن البلاد تمرّ بأخطر أزمة سياسية في تاريخها، مع توسع الاعترافات بدولة فلسطين وسحب الاستثمارات الأوروبية.
وقال الكاتب والباحث السياسي ماهر حجازي للجزيرة نت إن الأزمة داخل إسرائيل ذات شقين: أزمة سياسية بين الحكومة والمعارضة، وأزمة بين المستوى السياسي والمؤسسة الأمنية، نتيجة مباشرة لفشل نتنياهو في إدارة السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وأوضح أن نتنياهو أقصى المعارضة ولم يستمع لأصواتها، بينما راكم الجيش إخفاقات طوال عامين من حرب الإبادة من دون تحقيق أهداف إنهاء المقاومة أو تحرير الأسرى أو إسقاط حكم حركة المقاومة الإسلامية ( حماس ).
وأضاف الباحث السياسي -للجزيرة نت- أن وزيرا في الحكومة أقر بأن 60% من أنفاق حماس لا تزال فعالة، في حين قتل عشرات الأسرى الإسرائيليين خلال العمليات.
ويرى حجازي أن هذه الإخفاقات فجرت أزمة سياسية داخلية ترافقها عزلة دولية متصاعدة واعترافات بالدولة الفلسطينية، إضافة إلى التصعيد مع إيران ولبنان وهجمات الحوثيين من اليمن، مما عمق تفتيت الجبهة الداخلية والأزمة السياسية الأمنية في إسرائيل.
وعلى الصعيد الخارجي، انعكست الحرب على صورة إسرائيل في العالم، إذ أدت مشاهد الإبادة والتهجير إلى تراجع النفوذ السياسي والأخلاقي للرواية الإسرائيلية، وفي المقابل كان هناك صعود للتضامن العالمي مع الفلسطينيين، وتُرجم ذلك إلى موجة اعترافات بدولة فلسطين وقرارات مقاطعة وملاحقات قانونية في المحافل الدولية.
وفي هذا السياق، قال رئيس المجلس الفلسطيني الأوروبي للعلاقات السياسية ماجد الزير إن سياسة القتل الممنهج والتطهير العرقي مقرونة باستعلاء إسرائيل في السياسة الدولية أدت إلى "انقلاب عالمي على سياسة دولة الاحتلال"، وكشف حقيقتها الإحلالية حيث لا ترى للشعب الفلسطيني وجودا على أرضه.
وأوضح الزير -في تصريحاته للجزيرة نت- أن طول أمد الجرائم ولّد حالة تضامن شعبية واسعة في أوروبا والأميركتين أعادت استحضار نكبة 1948، وأن استمرار الإبادة وقتل المدنيين أدى إلى تحولات سياسية غربية تمثلت في العقوبات وسحب السفراء والاعتراف بفلسطين وملاحقة قادة الاحتلال والدول الداعمة له، مبينا أن هذا يشكل "زمنا فلسطينيا إيجابيا" يجب استثماره من جميع الأطراف الفلسطينية.
ومن منظور عسكري، تتعامل إسرائيل مع نتائج الحرب من موقع مختلف، فهي تسعى لإعادة تأهيل قوتها الميدانية رغم العزلة السياسية والضغط الدولي، وتتحرك ضمن معادلة تجمع بين استمرار الجاهزية العسكرية وفقدان العمق السياسي الداعم، حسب ما قاله الخبراء.
ولذلك يقول الخبير الأمني والعسكري أسامة خالد إن وجود قيادة أميركية عسكرية في إسرائيل يؤثر على المسار العملياتي من دون أن يسلب الجيش استقلال قراره، إذ تبقى العلاقة قائمة في شكل تنسيق إستراتيجي مع القيادة الوسطى الأميركية.
وأوضح خالد -في تصريحاته للجزيرة نت- أن الجيش أعاد ترميم وحداته ولديه القدرة على شن حملة جديدة في غزة، بينما تعاني المقاومة من ضعف بسبب الخسائر والحصار، مشيرًا إلى أن الداخل الإسرائيلي لم يحسم بعد مصير الحرب بين إنهائها أو المضي نحو "النصر المطلق"، مرجحا اتباع نموذج يشبه الساحة اللبنانية عبر خروقات واغتيالات محدودة.
وأضاف الخبير العسكري أن خطورة اللحظة التي تمر بها الحكومة الإسرائيلية حاليا وبعد حرب غزة تتمثل في أن الجيش الإسرائيلي يعمل اليوم وسط قيود ثقيلة جدا، وأصبح قرار الحرب مرتبطا بصراع سياسي داخلي، فضلا عن أنه أصبح تحت الرقابة الأميركية.
وكما يجمع المحللون على أن المسألة لا تتعلق بحجم الخسائر السياسية والاقتصادية فقط، بل بطبيعة تموضع الجيش نفسه، فهو يتحرك لأول مرة منذ عقود من موقع دفاعي وتحت عزلة دولية وتراجع في الردع، وفضلا عن ذلك، فهو لم يعد يعمل وفق مسار عسكري واضح، مما يعني أن إسرائيل تعيش أزمة عسكرية مستمرة، وليست مجرد مرحلة إعادة ترتيب ما بعد العدوان على غزة.
وخلال الشهر الجاري، وعبر ضغط أميركي ووساطة عربية وتركية، توصلت حماس وإسرائيل لاتفاق لوقف إطلاق النار، ضمن عدة مراحل، على أن تتضمن المرحلة الأولى منه تسليم الأسرى الإسرائيليين في غزة، مقابل الإفراج عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
المصدر:
الجزيرة