"ماما أين جوري؟ اذهبي يا ماما وأحضري جوري"، لا تفارق ذكرى الطفلة جوري التي رحلت متأثرة بمعاناتها من الجوع في قطاع غزة، ذهن شقيقتها التي تسأل والدتها بخوف: "أنا يا ماما سأموت مثل جوري؟".
تقول والدة جنى عياد إن ابنتها: "بين الحياة والموت، ووضعها صعب للغاية. وأتمنى أن تخرج ابنتي للعلاج في الخارج لتصبح مثل أي طفلة".
فقدت الأم ابنتها جوري ذات العام ونصف العام "بسبب الجوع"، والمضاعفات الصحية الخطيرة التي ترتبت عليه، مضيفة: "أنا لا أقوى على فقد ابنتي الثانية".
ويعاني قطاع غزة من جوع جماعي في ظل الحرب المستمرة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتفرض إسرائيل حصاراً محكماً على القطاع شددته في الثاني من مارس/آذار الماضي بمنع دخول أي مساعدات أو سلع تجارية، ما تسبب بأزمة إنسانية.
وفي أواخر أيار/مايو بدأت بالسماح بدخول كميات محدودة من المواد الغذائية تولت توزيعها مؤسسة غزة الإنسانية المدعومة من الولايات المتحدة، وترفض الأمم المتحدة والعديد من منظمات الإغاثة التعاون مع خطط المؤسسة، التي يرون أنها تتعارض مع المبادئ الإنسانية، و"تستخدم المساعدات كسلاح".
تقول والدة جنى عياد لبي بي سي، إن المجاعة التي يمر بها قطاع غزة حقيقية لدرجة الرعب، وأنا لا أعمل ومسؤولة عن أبنائي مسئولية تامة لأن والدهم سافر إلى مصر قبل الحرب في رحلة علاجية مع والده، واندلعت الحرب ولم نره منذ ذلك الحين".
تتساءل الأم: كيف لي أن أقدر على الأسعار المرتفعة جداً لأبسط السلع؟ كيف لي أن أوفر قوت أبنائي؟
وتعتمد والدة جنى بشكل أساسي على التكيات (المؤسسات الخيرية)، وتقول: "إذا لم تتوافر التكية لا نأكل، بالكاد أستطيع أن أوفر لأبنائي قطعة خبز مع دقة (أكلة شعبية في القطاع هي مزيج من البهارات والأعشاب والمكونات المجففة) أو صحن عدس على مدار اليوم".
تعود الأم بالذاكرة لما قبل الحرب، وتصف كيف كانت جنى تتمتع بـ"حالة صحية جيدة للغاية"، لكن "بسبب سوء التغذية وضعها الصحي تدهور وفقدت الكثير من وزنها حتى صارت هيكلاً عظمياً".
وترتب على ذلك "مضاعفات صحية خطيرة"، لتنقل الأم جنى لمستشفى أصدقاء المريض ليُبلغ الأطباء أن جنى في "حالة حرجة للغاية وتتطلب إمكانيات علاجية ليست متوفرة في القطاع".
تتمالك والدة جنى أعصابها مجدداً لتكمل الحديث وتسترجع ذكرياتها مع ابنتها الراحلة: "جوري كان عمرها سنة ونصف عندما رحلت عن عالمنا، وكانت شديدة التعلق بجنى، دائماً كانتا تلعبان معاً، وفجأة غابت عنها".
ترى الأم أن رحيل جوري "أثر كثيراً على على حالة جنى النفسية فأصبحت تُكثر من تصفح صورهما المشتركة ثم تتساءل بخوف، إن كانت ستلقى مصير شقيقتها.
"لم تعد قادرة على المشي، طوال الوقت نائمة على ظهرها، لا تقوى على أداء أبسط حركة، وبطنها منتفخ للغاية، ومضاعفات الجوع أثرت على قدرتها على الرؤية والحركة، والأطباء يقولون إن حالتها خطيرة للغاية".
تتمنى جنى أن تعيش حتى ترى أباها وتعانقه مرة أخرى، أن تأكل الدجاج والسمك، وتطلب أشياء لا تقوى الأم على تحقيقها رغم بساطتها، بحسب الأم التي تسأل، هل تطيق أي أم أن تتحمل لساعة ما احتمله أنا كل يوم؟
ووفقاً للسلطات الصحية الفلسطينية، توفي 266 من سكان غزة نتيجة "المجاعة وسوء التغذية" في الحرب.
وللوقوف على تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة الأطفال الذين يموتون جوعاً يقول الطبيب أحمد الفرا رئيس قسم الأطفال في مجمع ناصر الطبي في قطاع غزة إن الجسم "يبدأ بأكل نفسه ويتغذى على النسيج الشحمي تحت الجلد".
وبعد استهلاك النسيج الشحمي تحت الجلد، يلجأ الجسم للعضلات، فلا يتبقى من جسد الطفل المريض سوى العظام التي تكسو الجلد، وهنا يحصل مشهد الأطفال كهياكل عظمية، ويصل الجسم إلى مرحلة من الجفاف الشديد، وفق الفرا.
وكذلك يحدث تراجع العينين إلى الداخل، وتتحول نظراتها إلى ما يُطلق عليه بلغة الطب "miserable" أو "misery look" أي نظرة مأساوية.
ويضيف: "يميل الطفل إلى الاكتئاب، ويحدث لديه إسهالات بسبب قلة الإنزيمات التي يفرزها البنكرياس للهضم، وتنخفض درجة حرارة الجسم، وينخفض الضغط، وينخفض عدد ضربات القلب، ويدخل الجسم في مرحلة من الكمون أو السكون".
وفي هذه المرحلة يصل جهاز المناعة إلى أدنى مستوياته، ويحدث انتفاخ شديد في البطن، واختلال في أملاح الدم، وبطء شديد في ضربات القلب، وقد يحدث التهاب بكتيري في الدم نظراً لضعف المناعة لدى الطفل.
وبعد مرور الجسم بكل هذه المراحل يدخل في غيبوبة لمحاولة الحفاظ على ما تيسر من تغذية إلى الدماغ، وما لم يحدث تدخل في هذه اللحظة تتوقف عضلة القلب إلى الأبد، بحسب الطبيب.
واتّهمت منظمة العفو الدولية، إسرائيل باتّباع سياسة تجويع "متعمّدة" في غزة.
وكانت منظمة العفو اتهمت إسرائيل في أبريل/نيسان بارتكاب "إبادة جماعية على الهواء مباشرة" في غزة، واعتبرت وزارة الخارجية الإسرائيلية هذه الاتهامات "كاذبة وعارية عن الأساس".
وفي 12 آب/أغسطس نفت هيئة تنسيق أعمال الحكومة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية (كوغات) التابعة لوزارة الدفاع والمشرفة على الشؤون المدنية، وجود مؤشرات إلى سوء تغذية واسع النطاق في قطاع غزة.
ولا ينسى الطبيب الفرا حالة طفلة اسمها زينب أبو حليب، التي يقول عنها إنها وُلدت جميلة لم تكن تشكو من شيء، لكن والدتها كانت تعاني من سوء تغذية حاد فلم تستطع إرضاعها، وبالتالي لجأت إلى الحليب الاصطناعي، لكن أمعاء زينب تعرضت للتحسس من ذلك الحليب، وهو ما يُطلق عليه "حساسية الحليب البقري".
وأصبحت الطفلة تعاني من القيء والإسهال حتى دخلت في حالة شديدة من سوء التغذية، وانتهى بها الأمر إلى أن أصيبت بجلطة في الدم شفيت منها بالمضادات الحيوية، لكن بعد ذلك باتت ضعيفة، غير قادرة على الحركة، وأصبح لديها انتفاخ شديد في البطن، وبدأت في فقدان العضلات والنسيج الشحمي، ما أدى إلى وفاتها.
واختتم الفرا حديثه لبي بي سي عن هذه الطفلة قائلا: "حتى الوفود الدولية عندما دخلت وشاهدت الحالة، صُعقت من هول ما رأت".