ولد نضال مع توأمه سليم في السابع والعشرين من فبراير/شباط 2025 في قطاع غزة، ولم تبصر عيونهما غير المدركة لما يجري، سوى الحرب، حتى حليب والدتهما، كان من الصعب أن توفره لهما في ظل شح الطعام وصعوبة الوصول إليه، مما أفقدها القدرة على الإرضاع الطبيعي، يقول والدهما منذر شراب.
وفي السادس والعشرين من يونيو/حزيران، لم يتمكن جسد نضال الصغير من استكمال الحياة في ظل عدم سهولة توفر الحليب الطبيعي أو الصناعي "بسبب سوء التغذية الحاد"، يشرح منذر.
ويوضح والد نضال لبي بي سي أنه حاول قبل أسبوعين من وفاة طفله أن يحصل على حليب من عدة مستشفيات وجهات طبية وجمعيات خيرية في القطاع لكن دون جدوى.
في اللحظات الأخيرة من عمر نضال، في ذلك اليوم تحديداً تمكن الأب من الحصول على مساعدة وجدها غير كافية من إحدى الجهات الطبية الدولية، لكن وبعد منتصف الليل ساءت حالة طفله.
يصف الأب تلك الليلة باكياً: "خرجت من خيمتي أحمل طفلي، لا يوجد وسائل نقل ولم أجد من يساعدني، حتى وصلت إلى المستشفى الكويتي، وهناك أخبروني أن طفلي فارق الحياة وعلي أن أحمل جسده إلى مستشفى ناصر الطبي لإتمام إجراءات الوفاة".
يعيش منذر (34 عاماً) النازح مع عائلته، في خيمة في منطقة المواصي جنوب قطاع غزة.
بعد وفاة الطفل نضال انتشر مقطع فيديو لعائلته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهم يبكون ابنهم الذي مات من الجوع، بسبب الحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل على القطاع، وارتفاع أسعار الكميات النادرة من السلع الغذائية في القطاع - إن وُجدت.
إلا أن ما حصل لاحقاً لا يقل سوءاً بالنسبة لمنذر، الذي لا يملك دخلاً منذ فقدانه عمله بعد بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولا يستطيع حتى اليوم توفير الطعام الكافي لعائلته المكونة حالياً من زوجته وأطفاله الخمسة ووالدته وشقيقه الذي يعاني من إعاقة.
"كان عندي أربعة أولاد وابنتان، لكن بعد وفاة نضال أصبح لدي ثلاثة أولاد وابنتان"، يعاني سليم توأم نضال صحياً من سوء التغذية الحادة وكذلك الحال بالنسبة لطفلته البالغة من العمر سنة وستة أشهر إذ أخذت صحتها بالتراجع أيضاً، وفق والدهما.
ويوضح منذر لـبي بي سي أن علبة الحليب سابقاً "كان سعرها بحدود 25 شيكل (العملة الإسرائيلية) -أي ما يعادل نحو 7 دولارات-، أما اليوم فسعرها يصل إلى نحو 200 شيكل -ما يعادل 60 دولاراً-".
ويشير منذر إلى أنه حتى لو توفر ثمن الحليب في ظل قلة السيولة المالية، فإنه من الصعب أيضاً العثور عليه لندرته في القطاع.
لم نتمكن من الحصول على تفسير من طبيب اطلع على حالة الطفل نضال قبل وفاته.
إلا أن مديرة أنشطة التمريض في منظمة أطباء بلا حدود جاك لاتور التي تعمل في عيادتين للرعاية الصحية الأولية إضافة إلى مجمع ناصر الطبي جنوب القطاع، قالت إنها وثّقت حالات نقص تغذية شديد بين الأطفال.
وتضيف أنه "يجب أن نتحدث عن حقيقة أن سوء التغذية في حد ذاته انتشر بشكل كبير في كامل قطاع غزة. كل مؤشر غذائي يظهر لنا أن هناك تراجعاً حاداً بين جميع الفئات العمرية من حيث الوزن المتوسط، ومحيط الذراع العلوي المتوسط، وهو المقياس الذي نستخدمه لقياس سوء التغذية".
لاتور التي تقيم في غزة منذ قرابة 8 أسابيع، تقول إن "طفلان توفيا الأسبوع الماضي بسبب نقص تغذية حاد فور وصولهما إلى الطوارئ في مستشفى ناصر".
وتوضح أنه لعلاج الطفل من نقص التغذية "نحتاج إلى بقائه في المستشفى من أسبوع إلى أسبوعين حتى تستقر حالته، مع توفير مكملات غذائية خاصة، وهذا علاج طبي عالمي معتمد من منظمة الصحة العالمية واليونيسيف. نوفر حليباً خاصاً ليس لزيادة الوزن بشكل سريع، بل لتثبيت الأيض، لأن تقديم كميات كبيرة بسرعة يمكن أن يرهق الجسم ويؤدي إلى رفض الحليب، مما يسبب إسهالاً وقيئاً قد يؤدي إلى جفاف حاد وخطر على حياة الطفل. ونعالج المضاعفات الطبية التي أدت إلى دخول الطفل للمستشفى، والتي غالباً ما تكون مرتبطة بالإسهال والقيء الناتجين عن سوء المياه والتلوث".
كما ينقل تقرير حديث نشره برنامج الأغذية العالمي للأمم المتحدة عن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي أن غزة "تواجه خطر المجاعة الشديد، إذ وصلت مؤشرات استهلاك الغذاء، وسوء التغذية إلى أسوأ مستوياتها منذ بدء الصراع".
وتشير البيانات إلى أن أكثر من ثلث الفلسطينيين في قطاع غزة يظلون لأيام متتالية دون طعام، في حين يعاني أكثر من 500 ألف شخص من "ظروف شبيهة بالمجاعة".
ويضيف التقرير أن "تضاعف معدل سوء التغذية بين الأطفال دون سن الخامسة أربع مرات في غضون شهرين، ليصل إلى 16.5 في المئة، مما يشير إلى تدهور حاد في التغذية وارتفاع حاد في خطر الوفاة بسبب الجوع وسوء التغذية".
ولا يذكر التقرير أعداد الأطفال الذين لقوا حتفهم بسبب الجوع ويعزو ذلك إلى صعوبة الحصول على بيانات موثوقة في ظل الظروف الحالية في غزة، وتعرض النظم الصحية للدمار.
"لم نتناول اللحم أو الدجاج منذ اختراق وقف إطلاق النار الأخير، آخر مرة تناولناها في رمضان"، تقول هبة ويليام (36 عاماً) الأم لـ 3 أولاد وابنة، أكبرهم 14 عاماً وأصغرهم طفلتها ذات الخمسة أعوام.
بقيت هبة مع أطفالها وزوجها في منزلهم في النصيرات الوسطى قرب محور نتساريم، لكن نزح عدد من أفراد العائلة الممتدة، وأصبح مجموع من يعيشون في المنزل 18 شخصاً.
رغم ذلك تشرح هبة أن كل عائلة صغيرة داخل المنزل مسؤولة عن تحصيل الطعام الخاص بها، نظراً "لصعوبة توفير الطعام والغلاء الفاحش".
وفي غالبية الأحيان، تكتفي عائلة هبة المكونة من 6 أفراد، بكيلو غرام من الطحين يومياً، بما يوفر رغيفي خبز لكل فرد طوال اليوم. وتضطر في بعض المرات هي وزوجها للتنازل عن حصتهم الثانية من الخبز تحسباً لشعور أحد الأطفال بالجوع في صباح اليوم التالي.
"نصنع من الطحين خبزاً، أحياناً الأطفال يحمصونه ويأكلونه جافاً وأحياناً عند توفر الدقة [تشبه الزعتر المطحون] يضعونها في الخبز حسب المتاح. لكن المهم هو توفر الخبز. تقريباً نحن نعيش على الماء والخبز لأن باقي الأشياء حتى لو توفرت لا يوجد إمكانية مادية لشرائها"، تقول هبة.
يشار أيضاً إلى أن قطاع غزة يعاني من أزمة في توفر المياه منذ بدء الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وتضيف هبة: أحياناً يتوفر العدس، نصنع منه ما هو شبيه بـ "الدقة الغزاوية"، أما خبز العدس فلم يتقبله الأطفال. بالنسبة للفواكه والخضار فهي غير متوفرة أيضاً. تتذكر أنها تمكنت من الحصول على كيلو غرام من العنب لأطفالها الشهر الماضي، لكن فيما عدا ذلك فإنهم لم يتناولوا الفواكه منذ شهر رمضان، أي قبل نحو أربعة أشهر.
وفي السوق لا تجد هبة أياً من الأجبان أو الحليب أو البيض، ومن النادر توفر الخضراوات التي يتمكنون من شرائها عند انخفاض سعرها، لافتة إلى أن زوجها تحول عمله من باحث اجتماعي قبل الحرب، إلى مراقب عمال نظافة في شركة خاصة بعد الحرب، ولا يتقاضى راتباً ثابتاً، فيما لا يتجاوز دخله 1200 شيكل شهرياً - أي ما يعادل 353 دولاراً - بينما لم يعد لدى هبة المختصة في مجال الإعلام أي عمل.
يقول أستاذ التغذية العلاجية البروفيسور معز الإسلام فارس لـبي بي سي، إن الإنسان يحتاج لجميع العناصر الغذائية سواء "من العناصر الغذائية الكبرى: الكربوهيدرات، والبروتينات، والدهون. والعناصر الصغرى: الفيتامينات والمعادن. عدم توفر هذه العناصر يؤدي لاختلال وظيفي، وتعطل واحد أو أكثر من الوظائف الحيوية في الجسم".
ويوضح فارس أن الاختلال قد يضرب الجهاز العصبي، أو القلب، أو المناعي وهو الأكثر تأثراً عند نقص التغذية المتوازنة، مما يعرض الجسم للعدوى والإصابة بأمراض سارية.
ويُشير تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي عن غزة، الصادر في 12 مايو/أيار، إلى أن جميع السكان يعيشون في مرحلة الأزمة (المرحلة الثالثة) وما فوق.
وتوقع التقرير أن يعاني ما يقرب من 469,500 شخص من انعدام الأمن الغذائي الكارثي (المرحلة الخامسة من التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي) بين مايو/أيار، وسبتمبر/أيلول 2025.
وتخاف هبة على ابنها الأكبر البالغ من العمر 14 عاماً، لأنه في مرحلة المراهقة ويذهب أحياناً إلى أماكن المساعدات دون إخبارها. وتقول: "توجه لمركز المساعدات الإنسانية دون إبلاغي مع مجموعة من أبناء الحي، ثم تعرضوا هناك لإطلاق النار، خوفه دفعه للتراجع، دون الحصول على أي صندوق مساعدات. لكن في طريق العودة أخبرها أنه ساعد مجموعة من الأشخاص على حمل كيس طحين كبير، فمنحوه كنوع من الشكر كيلو غراماً من الطحين".
ثم تتحدث عن قصة أخرى حين توجه ابنها قبل أيام لمشاهدة إنزال جوي وعند اقترابه من علبة حليب على الأرض، توجه أحد الموجودين هناك نحوه وهدده ليتركها.
وتستذكر بحرقة ما قاله ابنها "عاد إلي خائفاً، أخبرني أنه تعرض للتهديد بعصا أو بسلاح، أعاد علبة الحليب، وقال لمن هدده (خذها يا عم)".
تتابع: "الطفل يشعر بالجوع أنا لم أستثمر كل سنوات عمري من أجل أن يحلم أطفال بكيس طحين".
لكن، هل تكفي محتويات صناديق المساعدات؟
حلل قسم تقصي الحقائق في بي بي سي - (BBC Verify)، قبل أيام ما يحتويه صندوق المساعدات الغذائية الذي توزعه مؤسسة غزة الإنسانية (GHF) المثيرة للجدل، والمدعومة من إسرائيل والولايات المتحدة.
وذكرت المؤسسة لقسم تقصي الحقائق في بي بي سي أن صناديق المساعدات الغذائية تحوي ما يعادل 42,500 سعرة حرارية تكفي لـ "5.5 أشخاص لمدة 3.5 أيام". وتحتوي على أطعمة جاهزة للأكل مثل ألواح الحلاوة الطحينية (خليط من الطحينة أو معجون السمسم والسكر). وتحتوي أيضاً على العدس والزيت النباتي وأحياناً بعض البدائل مثل الشاي والشوكولاتة.
وعمل أستاذ تنمية المعونة الدولية في كلية لندن للاقتصاد البروفيسور ستيوارت جوردون، على تحليل القائمة التي قدمتها مؤسسة غزة الإنسانية لفريق تقصي الحقائق، وقال إنه على الرغم من قدرتها على توفير السعرات الحرارية الكافية للبقاء على قيد الحياة، إلا أن فيها "نقاط ضعف خطيرة".
وأوضح البروفيسور: "في جوهرها، توفر هذه السلة إحساساً بالشبع ومعدة خالية من الغذاء. العيب الأكبر في كونها سلة طعام للإسعافات الأولية، مصممة للتخفيف من الشعور بالجوع".
وقال إن "اتباع نظام غذائي كهذا على مدى أسابيع سيزيد من خطر الإصابة بأمراض مثل فقر الدم ونقص فيتامين سي الحاد (الإسقربوط)".
بينما شرح معز الإسلام فارس أستاذ التغذية العلاجية لـبي بي سي عربي أن صندوق المساعدات لمن يتمكن من الحصول عليه، يمنح الإنسان "الحد الأدنى للبقاء على قيد الحياة. ولكن لا يعطيه حاجته من الطاقة الكلية والعناصر الغذائية الكبرى والصغرى من البروتينات والمعادن والألياف. والكثير يعانون من مشاكل في الجهاز الهضمي بسبب ذلك".
وأضاف أنه "يجب ان يكون هناك تنوع في المساعدات بحيث يغطي المجموعات: كالنشويات (طحين، أرز)، واللحوم المعلبة أو المجففة ويفضل أن تكون معلبة لأن فترة صلاحيتها أطول، والحليب الجاف كمصدر عالي للبروتين والكالسيوم، ودهون مثل زيت الزيتون، وطحينية السمسم، وفواكه مجففة، وخضار مجففة، وخضار معلبة".
ويرى فارس الذي نشر بحثاً عن الوضع الغذائي في السنة الأولى من حرب غزة بالتعاون مع أطباء وباحثين في القطاع، أن "الوضع لا يحتمل إلا شيئاً واحداً فقط وهو إنهاء الحرب، لأن أي حل آخر هو حل مجتزأ في ظل الحاجات الإنسانية الماسة في القطاع".
وتتهم حركة حماس إسرائيل بـ"تحويل الغذاء إلى سلاح قتل بطيء، وتحويل المساعدات إلى أداة فوضى ونهب"، مشيرة إلى أن قطاع غزة "يواجه مجاعة كارثية بفعل حصار شامل ومستمر". بينما ترفض إسرائيل هذه الاتهامات وتنفي وجود مجاعة في القطاع.
لا يقتصر أثر نقص التغذية على المدى القصير بل يمتد إلى "المدى البعيد حيث قد تتراجع معدلات النمو، كما قد تتراجع القدرات الذهنية والعقلية، إضافة للضعف الشديد في بنية الجسم، مع احتمالية استمرار الآثار السلبية على المدى البعيد، خاصة للأطفال الصغار، فكلما كان الطفل أصغر سناً، كلما كان أثر نقص التغذية أشد وأخطر ويؤدي إلى مشاكل مثل ضعف القدرات العقلية"، يقول فارس.
في حين تقول جاك لاتور مديرة أنشطة التمريض من أطباء بلا حدود "عند الإصابة بنقص التغذية، نلاحظ انخفاضاً في المناعة، مما يجعل الجسم أضعف وأكثر عرضة للإصابة بالعدوى، ويصبح أقل قدرة على مقاومتها. الالتهاب الرئوي عند طفل يعاني من نقص تغذية شديد، يختلف كثيراً عن طفل سليم، إذ تكون التوقعات الطبية أسوأ، مع معدلات وفاة أعلى، وفترات علاج أطول".
وتلفت لاتور إلى أن منظمة أطباء بلا حدود في غزة تعمل على رعاية الأطفال من سن ستة أسابيع وحتى خمس سنوات، إضافة للنساء الحوامل والمرضعات، وهذه هي الفئات الأكثر عرضة للوفاة، كما تقول.
وتفيد بأن الأطفال الذين يعانون من نقص تغذية خلال فترات النمو الحرجة يتأثر تطورهم سلباً، بما يشمل التطور النفسي والاجتماعي والعقلي والعصبي. "فالطفل يصبح أكثر نعاساً، خمولاً، ولا يستجيب للمحفزات الاجتماعية حوله، مما يؤثر على الترابط بينه وبين الأم، خصوصاً وأن الأم نفسها غالباً ما تعاني من نقص تغذية وتعيش في خيمة، وتكافح من أجل البقاء يومياً".
وتضيف: "وجود طفل يعاني نقص تغذية ويتفاعل أقل مع المحيط الاجتماعي قد يكون بمثابة حكم بالموت عليه، خاصة إذا تأثر الارتباط بين الأم والطفل. في هذه الظروف التي يحاول فيها الجميع البقاء على قيد الحياة، هناك خطر حقيقي أن يفقد الطفل رغبته في المقاومة، ويصبح لا مبالياً بكل ما حوله"، تقول.
ساهمت الصحفية في بي بي سي نيوز، مالوري مينش، في التمكن من مقابلة وحوار منذر شراب والد الطفل نضال.