"الزنانة فوق! لا نستطيع النوم منها"، هذا ما قالته مادلين كُلّاب حين أجرينا مقابلة معها بينما كان من الواضح في الخلفية صوت الطائرات المسيّرة الإسرائيلية التي يطلق عليها أهالي قطاع غزة اسم "الزنّانة".
تتابع مادلين بالقول: "منذ بداية الحرب، كل شيء تغير، انقلبت حياتنا، نزحنا، عشنا في الخيام، نمنا فوق الرمل، نمنا في الشارع، فقدنا كل ما نملكه من متعلقات الصيد.. مراكبنا وغيرها".
تعرّف مادلين نفسها على أنها "صيّادة فلسطينية"، فقد كانت من النساء القلائل، إن لم تكن الوحيدة التي تمتهن صيد الأسماك في قطاع غزة قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ألهمت قصة مادلين ناشطين ما يُعرف بـ "ائتلاف أسطول الحرية"، ليطلقوا اسمها على السفينة رقم 36، التي حاولت الوصول إلى قطاع غزة، محملة بكمية رمزية من المساعدات، بهدف "كسر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة"، كما يقول الناشطون.
وكان لاختيار ذلك الاسم رمزية تهدف إلى "تسليط الضوء على المعاناة التي تعانيها فئة الصيادين في غزة ولدعم النساء أيضاً في القطاع" وفقاً للمنظمين.
لم تفلح السفينة مادلين في الوصول إلى قطاع غزة، فقد احتجزت القوات الإسرائيلية السفينة ومن على متنها واقتادتهم نحو ميناء إسرائيلي.
تحدثت بي بي سي مع مادلين كُلّاب، لتسرد علينا قصتها مع البحر في غزة، وظروف حياتها خلال الحرب المستمرة في القطاع، وشعورها تجاه تسمية السفينة "مادلين" باسمها.
تقول مادلين، البالغة من العمر 31 عاماً، إنها بدأت في امتهان صيد الأسماك رفقة والدها منذ نعومة أظافرها، وحين بلغت الثالثة عشرة من عمرها، مرض والدها، فأُجبرت على الاستمرار في مهنة الصيد، كونها مهنة العائلة و"مصدر رزقها الوحيد".
مادلين ليست صيّادة فقط، بل أمّ لأربعة أطفال كذلك، وحُبلى في شهرها الثاني، وتبدي تخوفها من المستقبل الذي ينتظر الأطفال في قطاع غزة فتقول: "أكثر من سنة ونصف من عمر أطفالنا ذهبت هباء، لا تعليم، لا حياة كريمة، لا لعب، ليس لدينا أي مقومات للحياة، ليس عندنا كهرباء، ولا ماء، نضطر للمشي مسافات طويلة للحصول على الماء".
لكن كل تلك الظروف التي تعيشها مادلين كل يوم لم تمنعها من أخذ فسحة من الذاكرة لتسرد لنا شكل حياتها كصيادة قبل الحرب في قطاع غزة.
"كنا نستيقظ صباحاً، نجهز أنفسنا، وأحيانا نبدأ يومنا مساء إذا كان الصيد متوفراً في المساء، كانت حياة جميلة، رغم أن البحر في غزة لم يكن يوفر الكثير من الصيد، لكننا على الأقل كنا نستطيع أن نجد ما نأكله"، تقول مادلين، ثم تستطرق وتضيف: "لم نكن نعيش برفاهية، ولكننا كنا قادرين على توفير الطعام لأطفالنا، والأهم أننا كنّا نحس بالأمان، ننام وقتما نريد، نستيقظ وقتما نريد، نترك أطفالنا دون الخوف عليهم، كان كل شيء متوفراً، أما اليوم، فلا شيء هناك".
رغم نبرتها الحالمة في الحديث عن ذكريات مجردة لفترة ما قبل الحرب، لكن ذلك لم يمنعها عن ذكر "الأخطار" التي كانت تحيط بالعمل في مهنة الصيد.
وتقول مادلين: "كان مسموحاً لنا الصيد فقط ضمن مسافة ثلاثة أميال، وحين كنا نخاطر بالاقتراب من المناطق الحدودية لاستعادة شباكنا التي كنّا نفقدها في العادة بسبب التيّارات البحرية، كنا نتعرّض لإطلاق النار، أو مصادرة مراكبنا. إذا أراد الواحد منّا الصيد في البحر دون مخاطرة، فعليه البقاء ضمن مسافة ميلين فقط من الشاطئ، وهي منطقة غير وفيرة بالأسماك".
"من بيتنا، إلى مستشفى الشفاء، ثم إلى خان يونس، ورفح، وإلى دير البلح، والنصيرات"، تعدد مادلين هذه المناطق لا لتعرفنا على جغرافيّة غزة، بل لتعطينا لمحة عن مسار نزوحها خلال الحرب.
تصف مادلين الأيام الأولى من الحرب التي قلبت حياتها رأساً على عقب، فتقول: "كان الشغل الشاغل لنا في البداية أن نخزن القليل من المؤن، لم يكن يخطر في بالنا أننا سننزح، لكننا نزحنا للمرة الأولى بعد 10 أيام من بدء الحرب".
تتابع مادلين: "لم أعد أبداً إلى بيتي، أو إلى المنطقة التي كنت أصطاد فيها، جعلنا النزوح ننسى كل شيء، لم يعد لنا شيء، لم أحاول خلال الحرب الرجوع إلى البحر، فلم يعد لدينا شيء، لا مراكب ولا أحد".
انقطع الاتصال بعد ذلك مع مادلين خلال إجرائنا المقابلة معها، ثم عاد الاتصال لتقول إن شبكة الإنترنت انقطعت ثم عادت، لتسرد لنا قصة تسمية السفينة "مادلين" باسمها.
"تواصل معي ناشط كندي، يعرفني كصيّادة أسماك، وأخبرني أنهم يريدون تسمية مركب منطلق إلى غزة تيمناً باسمي، لأنهم يرون أنّي كافحت في حياتي، وأنّي أمثل قصة نجاح في مهنة تقتصرعلى الرجال، أخبروني أنه قارب سلمي، يحمل فقط بعض المؤن والطعام لأهالي غزة".
"جعلني ذلك أشعر بالفخر، لأن هناك من يهتم بقصتي ويهتم بي"، تقول مادلين، ثم تكمل في وصف شعورها تجاه رحلة السفينة: "كنا نتابع أخبار السفينة أولاً بأول، وكنا نتمنى أن تتمكن من الوصول إلى غزة، رغم معرفتنا أنه سيتم توقيفها في النهاية".
"هم يعرفون بقصتي كصيّادة منذ عام 2012، ويعرفون كم عانيت في حياتي وكم كافحت، ويعرفون كم عانيت خلال الحرب رفقة أطفالي الأربعة، لذلك أرادوا تكريمي بتسمية السفينة باسمي".
"رسالتي هي أننا سلميون، نحن نجري من أجل لقمة عيشنا، كان كل همّنا قبل الحرب أن نوفر لأطفالنا الخبز والطعام، لا نريد سوى أن نعيش حياة كريمة، ولا نريد سوى الأمان والسلام، نريد أن يُرفع الحصار، وأن تنتهي الحرب، لا نستطيع الاستمرار في هذا الخوف والجوع، نحن أشخاص نريد أن نعيش"، كانت تلك إجابة مادلين حين سألناها عن الرسالة التي أرادت توجيهها عبر الموافقة على تسمية السفينة باسمها.
"سفينة مادلين أحيت مادلين من جديد، وأخبرت الجميع أن مادلين لا تزال هنا، تكافح وتعمل وتربي أطفالاً، وأمنية حياتها أن تؤمّن مستقبلاً زاهراً لأطفالها"، تقول مادلين.
"زوجي صيّاد، وعائلته من الصيادين، وتعرفّنا على بعضنا البعض عن طريق الصيد، وكل ما يملك هو وعائلته، وكل ما بنوه طوال حياتهم فقدوه خلال الحرب"، كانت تلك قصة مادلين مع زوجها التي أثمرت عائلة مكونة من ساندي البالغة من العمر ست سنوات، وصافيناز ذات الأعوام الخمسة، وجمال ثلاث سنوات، ووسيلة سنة ونصف.
تسرد مادلين قصة معاناتها اليومية في التعامل مع طلبات أطفالها التي لا تستطيع تلبيتها بسبب الحرب والحصار، فتقول: "لا نستطيع أن نوفر شيئاً مما يطلبه أطفالنا، سواء الدجاج أو الفواكه أو غيرها، لأنها ليست موجودة أصلاً، أحياناً تقول لي ابنتي، أريد أن آكل "الكبسة" – وهي طبق يُحضّر في الشرق الأوسط من الأرز والدجاج والتوابل -، أقول لها: سأحضّرها لك بالأرز فقط، فترفض وتقول: أريدها بالدجاج، يشاهد أطفالي عبر الإنترنت الفواكه، مثل الموز والتفاح والبطيخ، فيطلبونها، لكن حتى المتوفر منها ثمنه مرتفع، سعر البطيخة الصغيرة في غزة يصل إلى 50 دولاراً، لا يمكن لأحد شراؤها بهذا الثمن، نتمنى أن يفكوا الحصار، لأننا تعبنا".
لم تقتصر حياة مادلين فقط على مهنة الصيد التي لم تخلُ يوماً من المعاناة، والتي "أجبرت عليها منذ نعومة أظافرها" لتوفير لقمة العيش، فقد حاولت مراراً طرق أبواب أخرى، إذ تعلمت تصميم الأزياء بعمر 16 عاماً، لكن لم يُقدّر لها العمل في هذه المهنة بسبب قلة الفرص. وفي عمر الحادية والعشرين، التحقت مادلين بإحدى الكليّات بتخصص "سكرتير تنفيذي"، لكنها لم تحصل على شهادتها بسبب عدم قدرتها على سداد رسوم الدراسة.
أكملت مادلين حياتها كما عرفتها في سنّ مبكرة، كصيّادة أسماك، وهي المهنة التي كانت تراها "هواية" أيضاً، إلا أن ذلك لم يعنِ أنها لم تجلب معاناة إضافية إلى حياتها. تقول مادلين: "مهنة الصيد هي هوايتي منذ صغري، لكنني أُجبرت عليها كمهنة، وكانت الظروف في غير صالحي، فأسعار الوقود مرتفعة، ومحرك قاربي كان معطلاً دائماً، والصيد كان قليلاً. يُضاف إلى ذلك أحوال الطقس، من شمس حارقة في الصيف، وبرد في الشتاء، البحر معاناة، عانيت كثيراً، أحتاج عشرين سنة أخرى من الكلام كي أعبّر عن مقدار معاناتي مع تلك المهنة".
ختمت مادلين مقابلتها معنا بانقطاع آخر للإنترنت، لكن ذلك لم يمنعنا من سماع كلمات أخيرة منها تدلل على مدى تعلّقها بالبحر:
"في صغري، كان بيتنا بعيداً أمتاراً قليلة عن البحر، لم تكن حافلة المدرسة تقلّني إلى البيت، بل إلى خيمة صغيرة كان أبي ينصبها عند البحر، حيث ينطلق لصيد الأسماك، فأجد والدي وقد وضع إبريقاً من الشاي على النار، وجهّز لنا بعض الأسماك المشوية".