هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
لقد كانت الأرض تتحرك تحت الشرق الأوسط منذ بعض الوقت. في خطوة جديدة غير متوقعة ومهمة، أعلن حزب العمال الكردستاني ( PKK )، المتورط منذ زمن طويل في أحد أعنف الصراعات الإرهابية وأكثرها توترًا سياسيًا في المنطقة، عن نيته حلَّ صراعه المسلح الذي استمر عقودًا وإنهائه. بالنسبة لتركيا، يُعد هذا الحدث أكثر من مجرد حدث أمني بارز؛ بل لحظة فارقة قد تُعيد رسم مسارها المحلي وتُعيد تشكيل مصفوفة القوة الإقليمية.
في الوقت الذي تتعامل فيه تركيا مع مشكلتها الكردية المتغيرة بسرعة، فإنها لا تشكل مستقبلها فحسب، بل تعمل أيضاً على إعادة تعريف النظام الإقليمي.
لقد أثبت التاريخ أنه عندما تتحرك تركيا بعزم ووحدة، تحذو المنطقة حذوها، مما يفتح آفاقًا جديدة للسلام والتعاون. يحمل هذا التحول المحوري تداعيات عميقة، ليس فقط على تركيا، بل على الشرق الأوسط بأكمله، إذ يُمثل نقطة تحول مهمة في صراع امتد لعقود.
يأتي هذا القرار في أعقاب سلسلة من الإجراءات السياسية المهمة، بما في ذلك مبادرة أطلقها حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، بقيادة الرئيس أردوغان، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بالتعاون مع حزب الحركة القومية. وقد مهدت دعوة عبد الله أوجلان لوقف أنشطته في فبراير/شباط الطريق للإعلان الرسمي لحزب العمال الكردستاني في 12 مايو/أيار. ويؤكد هذا التسلسل من الأحداث على التفاعل المعقد بين السياسة الداخلية والديناميكيات الإقليمية الأوسع.
يرتبط توقيت هذه المبادرة ارتباطًا وثيقًا بالمشهد السياسي التركي الراهن. فحزب "العدالة والتنمية" يُعاني من تراجع شعبيته، وتتوقف طموحات أردوغان لولاية رئاسية ثالثة على تعديل دستوري ضروري يتطلب أغلبية الثلثين في البرلمان. ولتحقيق ذلك، أصبح كسب دعم الأصوات السياسية الكردية أمرًا بالغ الأهمية. إضافةً إلى ذلك، دفع التباطؤ الاقتصادي المستمر النخبة السياسية إلى البحث عن قصة نجاح قد تحشد الدعم الشعبي أو تُحوّل الانتباه عن القضايا المالية المُلحة.
خارجيًا، تُعقّد ديناميكيات الوضع في سوريا المجاورة الوضع أكثر. رسّخت وحدات حماية الشعب/قوات سوريا الديمقراطية، وجودًا شبه حكومي فيما يقرب من ثلث سوريا. ويُشير قبول النظام السوري مؤخرًا لقوات سوريا الديمقراطية إلى مرحلة جديدة من الاستقلال الاستراتيجي الكردي. والجدير بالذكر أن قرار وحدات حماية الشعب بالنأي بنفسها عن دعوة أوجلان لنزع السلاح أبرز مسارها المتباين وقدرتها على تعطيل مسار الحل في تركيا.
إذا رأت أنقرة في هذه اللحظة فرصةً لتفكيك القدرة العملياتية لحزب العمال الكردستاني في أضعف حالاته، فإن التطورات عبر الحدود تُهدد بإلغاء هذه المكاسب. إن تجزئة سوريا، وتمكين الميليشيات الكردية، وتغير التحالفات الإقليمية قد يجعل من تفكيك حزب العمال الكردستاني مجرد وهم تكتيكي لا حلاً استراتيجياً. وتُشكل هذه الشبكة المعقدة من المتغيرات الخارجية مخاطر جسيمة قد تُعقّد المشهد السياسي لأنقرة مستقبلاً.
إن الخسائر النفسية والاقتصادية لصراع حزب العمال الكردستاني لا تُحصى. فقدنا عشرات الآلاف من الأرواح، وهجّرنا أجيالًا، واستقطبنا مجتمعات. واستنزفت النفقات العسكرية الموارد الوطنية. يتطلب التئام هذه الندبة أكثر من مجرد نزع السلاح، بل يتطلب شجاعة سياسية، وعدالة انتقالية، وعقدًا اجتماعيًا يشمل أكراد تركيا كأصحاب مصلحة متساوين في مستقبل الجمهورية.
مع ذلك، على حكومة أردوغان أن تتوخى الحذر. فبينما قد يُسوّق لخطوة حزب العمال الكردستاني على أنها انتصار سياسي، فإن المبالغة في تصويرها على أنها "هزيمة" قد تُقوّض أي مصالحة حقيقية. ففي بلدٍ تُدمّره جروح الإرهاب بعمق، وتظلّ حقوق الأكراد قضيةً خلافية، يجب أن تُحقّق الرسائل العامة توازنًا دقيقًا بين تكريم الضحايا، وضمان الأمن، وخلق مساحة سياسية حقيقية للتماسك.
حزب العمال الكردستاني ليس مجرد جماعة مسلحة، بل هو كيان فاعل عابر للحدود الوطنية، يتواجد بشكل رئيسي في العراق وإيران وسوريا وأوروبا، ويمتد إلى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والأيديولوجية. لن يؤدي حل جناحه المسلح إلى محو وحدات حماية الشعب الكردية، أو قوات سوريا الديمقراطية. بل قد تتطور هذه التشكيلات، أو تُعيد تقييم نفسها، أو تُعيد صياغة هويتها، مما يُشكل تحديات جديدة للجهات الفاعلة الإقليمية.
في ظل وضع مقلق، قد يُؤدي تفكك حزب العمال الكردستاني إلى انهيار الوحدة الكردية، مما يُؤدي إلى فراغ في السلطة قد تستغله الجماعات المنشقة المتطرفة. ومع تحول حزب العمال الكردستاني من الصراع المسلح إلى الاستراتيجيات السياسية، قد تشعر الفصائل داخل اتحاد المجتمع الكردستاني ووحدات حماية الشعب بضغوط لإظهار أهميتها من خلال أعمال عدائية أكثر. وقد يؤدي هذا إلى تصاعد العنف مع تنافس هذه الجماعات على السلطة والموارد والهيمنة الإقليمية، سواء داخل تركيا أو في جميع أنحاء المنطقة.
في ظل هذه البيئة الفوضوية، قد تستغل الجهات الخارجية الوضع لتحقيق أجنداتها الخاصة، مما قد يؤدي إلى صراع بالوكالة تدعم فيه القوى الإقليمية الفصائل الكردية المتنافسة. وقد يؤدي احتمال سوء التقدير والتصعيد إلى تفاقم الصراع في تركيا، مما يضطرها إلى التدخل عسكريًا ليس فقط ضد فلول حزب العمال الكردستاني، بل أيضًا ضد الجماعات الكردية الأخرى التي قد تنشط في المعارضة.
تتكشف هذه اللحظة على خلفية تراجع النفوذ الأمريكي، وإعادة تقييم إيران لمواقفها، وتطبيع عربي مع سوريا، وعدم استقرار إسرائيل. في ظل بيئة متقلبة كهذه، ستختبر قدرة تركيا على تشكيل القضية الكردية داخليًا وخارجيًا براعتها الدبلوماسية وتماسكها الداخلي. قد تؤدي أي خطوات خاطئة إلى رد فعل عنيف من المتشددين، أو تمكين المتطرفين، أو دعوة للتدخل الأجنبي في عملية هشة أصلًا.
إعلان حزب العمال الكردستاني إنهاء الكفاح المسلح وحل نفسه حدث تاريخي، ولكنه ليس نهائيًا. فهو يُشير إلى نهاية فصل وبداية فصل آخر غامض. لدى تركيا فرصة للقيادة، ليس من خلال الهيمنة، بل من خلال حوار تحويلي يعالج المظالم الهيكلية العميقة.
إذا أُديرت هذه اللحظة بحكمة، فقد تُعيد تقييم ليس فقط الديناميكيات الداخلية لتركيا، بل أيضًا مكانتها كقوة إقليمية مؤثرة. أما إذا أُسيء إدارتها، فقد تُمزّق المشهد الإقليمي المُتوتر أصلًا، وتُعيد إشعال صراعات قديمة تحت مسميات جديدة. في القضية الكردية، كما في معظم أنحاء الشرق الأوسط، لا توجد نهايات واضحة، بل تقارب في الإرادة والذاكرة والخيال السياسي.
* نبذة عن الكاتب:
إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.
ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.
كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.