آخر الأخبار

ما هي خطة أميركا لإعادة "شرطي المنطقة" لدوره القديم؟

شارك

يعتقد العديد من الكتّاب والمؤرّخين، ومن بينهم الكاتب المعروف محمد حسنين هيكل، أنّ الحروب التي قادت إلى تأسيس إسرائيل كأداة استعمارية في منطقتنا، وكدولة وظيفية تخدم السياسات والأطماع الإمبريالية، قد تم التحكم بها بشكل كبير من قبل القوى الاستعمارية المهيمنة في حينه، وبالذات بريطانيا العظمى، لكي تظهر العصابات الصهيونية في حينه، والتي ستشكل لاحقًا جيش الاحتلال الإسرائيلي كقوة عسكرية فتّاكة قاهرة وقادرة على هزيمة مجموعة من الجيوش العربية مجتمعة.

وهو ما ساهم في بناء سردية كاذبة استمرت لعقود: أن الجيش الإسرائيلي هو "الجيش الذي لا يقهر". في سبيل ذلك تم الزجّ بجيوش عربية، بعضها غير مؤهل وبعضها الآخر يقاد من قبل ضباط بريطانيين تحكموا بقرارها ومستوى مشاركتها في معارك معروفة النتائج سلفًا.

يمكن القول إن هذه الإستراتيجية قد نجحت لعقود طويلة، لكنّها تراجعت بشكل كبير بعد نشوء قوى وفصائل المقاومة الفلسطينية والعربية، وكذلك بعد حرب عام 1973، حيث أخذت قدرة الجيش الإسرائيليّ على الردع تتآكل شيئًا فشيئًا، وبات هذا الجيش يحتاج إسنادًا غربيًا مباشرًا، بل وفي بعض الأحيان شراكة عملياتيَّة في المعارك.

وقد بلغ التغيير في المشهد ذِروته في المواجهات العسكرية مع المقاومة الفلسطينية في غزة والمقاومة اللبنانية، حيث عجزت إسرائيل مرارًا عن إنجاز أهدافها من الحروب، أو إخضاع خصومها، الذين تحلّوا بالعزيمة والقوّة والإصرار.

إعلان

بعد الضربة الاستثنائية التي تلقتها دولة الاحتلال الإسرائيلي في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والتي عرفت بطوفان الأقصى، والانعكاسات الإستراتيجية لهذه الضربة على كل الصعد، والتي ظهرت كمهدد حقيقي للكيان ومستقبله، يبدو أن الكيان ورعاته الدوليين، وبالذات الولايات المتحدة الأم ي ركية، قد قرّروا إعادة إنتاج إسرائيل القديمة؛ إسرائيل الوكيل العسكري والأمني الاستعماري القادر على ردع وضرب كل من يفكّر في تحديه أو تحدي الهيمنة الغربية الاستعمارية في المنطقة.

لطالما لعبت إسرائيل هذا الدور، حيث ضربت في كل مكان بكل حرية وقوة ودون عواقب تذكر، ونفّذت اعتداءات في العالم العربي من أقصى الغرب في تونس، حين نفذت عملية إنزال عسكري اغتالت خلالها خليل الوزير أبو جهاد القيادي البارز في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية.

وفي شرقه في العراق، حين دمّرت المفاعل النووي هناك، كما كانت لا تتوقف عن العربدة والضرب في لبنان، وسوريا، والسودان، وفي الكثير من الدول في عمليات سرية وعلنية.

التغيير الذي أحدثته قوى المقاومة في المنطقة على هذه المعادلة بالذات في لبنان وغزة، وبناء معادلة ردع بدت فيها إسرائيل مكبّلة اليدين في هذه الجغرافيا، وتحسب حساب التجاوزات إلى الحد الذي لم تستطع فيه إجبار حزب الله على إزالة بعض الخيام التي وضعها على الحدود الجنوبية واعتبرتها إسرائيل خرقًا للحدود.

وكذلك عدم قدرتها على المسّ بقائد حركة حماس في قطاع غزة الشهيد يحيى السنوار بعد حرب 2014 حين تحدى الاحتلال بالقيام باغتياله وهو يتمّشى في شوارع غزة بعد إنهائه المؤتمر الصحفي الذي كان يعقده لحظتها.

اليوم وبعد مرور عام ونصفٍ على معركة طوفان الأقصى وحرب الإبادة على قطاع غزة، يبدو أن الولايات المتحدة تعتقد أنها أمام فرصة تاريخية لإعادة إنتاج "شرطي المنطقة"، وإعادة تأهيل وكيلها الأمني وأداتها الاستعمارية وتشكيل المنطقة من جديد ليكون الكيان الصهيوني في مركزها الأمني والاقتصادي والسياسي، يساند هذا التوجه العديد من المؤشرات ولعلّ أهمها:

إعلان

* تبني الرؤية الإسرائيلية، رغم كونها يمينية فاشية ودينية متطرفة، للصراع في المنطقة بشكل كامل، بما فيها تهجير الفلسطينيين، وعدم الإقرار بأي من حقوقهم السياسية.
* غياب أي فوارق جوهرية أو ذات دلالة بين موقف الإدارة الأميركية السابقة "الديمقراطية"، والحالية " الجمهورية" تجاه الحرب منذ يومها الأول وحتى اليوم، ما يشي بأن المؤسسة السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية متّفقة مع هذه الرؤية وأهداف الحرب.
* الدعم العسكري والسياسي اللامحدود للعدوان الإسرائيلي على كل من تريد في المنطقة، وتزويدها بكل ما يلزم لتسديد الضربات في اليمن، والعراق، وسوريا، ولبنان، وحتى إيران.
* العمل على تتويج الجهد العسكريّ بعملية سياسية واقتصادية ضخمة، تضع إسرائيل في مركز المنطقة السياسي والاقتصادي، فالتطبيع المتوقع مع عددٍ من الدول العربية والإسلامية والمشروع الاقتصادي الضخم المعروف بالممر الاقتصادي الذي يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط مرورًا بإسرائيل، يهدف ذلك أيضًا إلى ترميم وتعويض ما خسرته إسرائيل كنتيجة لضربة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول وما تلاها من حرب على الصعيدَين: السياسي والاقتصادي.
* العودة لسياسة التهديد بالفعل والقوة الإسرائيلية، والتلويح بها في وجه دول وشعوب المنطقة، كما تكرر على لسان ترامب أكثر من مرة، حين دعا إسرائيل لإنهاء المهمة في غزة، مع توفير كل متطلبات ذلك عسكريًا، وكذلك في لبنان على لسان، مورغان أورتاغوس، نائبة مبعوث الرئيس الأميركي الخاص، التي عبّرت عن امتنانها لإسرائيل؛ لأنها دمّرت حزب الله، وداعية للالتزام بتفكيك سلاحه وإلا فإن إسرائيل يمكن أن تستأنف القيام بالمهمة.
* امتناع الولايات المتحدة حتى اللحظة عن طرح أيّ حلول منطقية وذات طبيعة سياسية، يمكن أن تشكل حلًا وسطًا بين الأطراف، وتعطيلها كافة المسارات السياسية، سواء في لبنان أو غزة، لصالح فرض الرؤية الإسرائيلية، مما يعطي انطباعًا بأنها تدعم فكرة حسم الصراع لصالح المشروع الصهيوني، ومساعدته فيما يعتبره إخضاعًا لأعدائه.
إعلان

هذه السياسة الأميركية العدائية والمنحازة بالكامل للاحتلال الإسرائيلي، تساعد بالتأكيد في استمرار الصراع وتغذيته، ولن تجلب استقرارًا ولا أمنًا، وستدفع عاجلًا أو آجلًا إلى تحولات وانفجارات في غير مكان في المنطقة، وهي تمثل جملة من المخاطر الإستراتيجية والوجودية تتعدى الفلسطينيين وقضيتهم، إلى العديد من دول وشعوب المنطقة، ومما قد يترتّب عليها:


* تقويض الأمن القومي العربي- الإسلامي المشترك، والأمن القومي القُطري للعديد من الدول، وتعميق الخلافات البينية العربية والإسلامية، ذلك أن إسرائيل ستستثمر فيها لصالح تعزيز مكانتها وإضعاف الجميع. حيث ستبقى إسرائيل قادرة على التدخل المباشر في الشؤون الداخلية والبينية ومواجهة كل الطموحات الجماعية والمنفردة للتطور والتنمية بالذات في الشقَّين: العسكري، والأمني.
* تهديد وحدة أراضي العديد من الدول في المنطقة، سوريا، العراق، اليمن وتركيا، وغيرها، إذ لا تخفي إسرائيل نواياها وخططها لتقسيم العديد من دول المنطقة سواء بهدف التوسع الاستعماري أو لإضعاف الدول، وتعزيز انقساماتها، وأزماتها الطائفية، والقومية، ما يعزز أيضًا مخاطر اندلاع حروب أهلية في العديد من الدول التي تتمتع بتنوع عرقي وطائفي ومذهبي.

هذا التنوع الذي ينبغي أن يكون عامل إثراء لتجربة تلك الدول، حيث إن شعوب المنطقة تمكنت من التعايش معه لعقود طويلة خلت، سيعمل الاحتلال على تحويله لعامل تفجير ويغذي ويدعم كل ما من شأنه أن يحدث فرقة وصدامًا وفوضى.


* تهديد الوجود الفلسطيني على أرضه وتبديد طموحاته السياسية. ستشكل هذه الانطلاقة الجديدة للمشروع الصهيوني خطرًا حقيقيًا على الوجود الفلسطيني على أرضه، خاصة في ظل تبني الحكومة الفاشية في تل أبيب ما يعرف بخطة الحسم، التي تقضي بضرورة حسم الصراع مع الفلسطينيين لصالح المشروع الصهيوني عبر الاستيطان، والإخضاع والقتل والتهجير.
إعلان

كما أنها ستهدد طموحاته السياسية والوطنية، لأن ذات الخطة؛ خطة الحسم، تؤكد على أن الأرض الواقعة ما بين النهر والبحر لا تتسع سوى لطموحات وطنية لشعب واحد، وهو من وجهة نظرهم "الشعب اليهودي، وأن على الفلسطيني البحث عن طموحاته الوطنية في مكان آخر.


* إعاقة تقدم وتطور العديد من المشاريع الطموحة، اقتصاديًا وسياسيًا، في الإقليم سواء على المستوى القُطري أو الجماعي، وحرمان الشعوب من آمالها في التغيير وتطوير دولها لتكون دولًا مدنية تعددية مستقرة. ذلك أن إسرائيل ستحرص على بقاء دول المنطقة، ذات نظم شمولية، ضعيفة، يسودها الفقر والفساد. وستحول دون إنشاء تحالفات أو اتفاقيات إقليمية مؤثرة.

وسيؤدي التنامي المتوقع لدورها الاقتصادي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية لدى الدول الفقيرة في المنطقة، التي كانت تعول على الشراكة والتبادل التجاري مع شقيقاتها الثرية، نظرًا لأن إسرائيل ستشكل بديلًا تجاريًا واستثماريًا.

وستضغط بعض المشاريع المتوقعة على اقتصاديات العديد من الدول؛ لأنها ستهدد مشاريع اقتصادية كبيرة طالما اعتمدت عليها دول المنطقة، كقناة السويس، ومشاريع توليد الطاقة الكهربائية، والصناعات الغذائية، والتكنولوجية في أكثر من دولة.


* تفاقم الخطر على حركات التغيير في العالمين العربي والإسلامي ذلك أن إسرائيل تعتبر قوى التغيير عدوًا لها، تمامًا كما التغيير ذاته.

هذا الأمر قد يفضي إلى حالة من الإحباط الشعبي والغضب الذي قد يعيد إنتاج حركات راديكالية تدخل العديد من الدول في أتون الصراعات الداخلية.

أمام هذه المحاولة الجادة لإعادة إنتاج إسرائيل بوصفها قاعدة عسكرية وأداة استعمارية متقدمة لقوى الهيمنة والاستعمار، وبالذات الولايات المتحدة، ولما أوضحنا من مخاطر مترتبة على ذلك، يصبح التصدي لهذه المحاولة واجبًا أخلاقيًا ووطنيًا وقوميًا وإنسانيًا، لا يقتصر بالتأكيد على الفلسطيني أو مقاومته، بل يتعداه إلى قوى وحركات التغيير في المنطقة، والدول الراغبة في النهضة والتقدم والمؤمنة بالقيم الإنسانية والعالمية.

إعلان

إن إحباط هذه المحاولة هو واجب اللحظة التاريخية التي لا ينبغي لأحد التخلي عنه، وإن دعم وإسناد كل من يقاومها هو أمر لازم على الجميع، وعليه فدعم المقاومة الفلسطينية والتصدي لمحاولات تدميرها أو القضاء عليها أمر حيوي للكثير من الفواعل والقوى والشعوب والدول حول العالم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا