في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
الخرطوم- قبل عامين من هذا التاريخ وفي فجر 15 أبريل/نيسان 2023 اندلعت الحرب -التي لا يزال أوارها يصلي البلاد- بين الجيش السوداني و قوات الدعم السريع التي كانت جزءا منه، وفي كل يوم تتكشف عن هذه الحرب قصص.
حين تلج مدينة الخرطوم -العاصمة السودانية- من جهة توأمها أم درمان عبر الجسر الذي يربط بينهما جسر النيل الأبيض عابرا منطقة المقرن الراقدة عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض يلف رأسك دوار الأهوال مما حدث.
هذه المنطقة موئل الخضرة ومدالق المياه ومستروح الشعراء وواجهة العاصمة بأبراجها العاليات وبهرج أضوائها المشرقات أضحت هشيما كأن زلزالا ضربها على حين هجعة، فأحال ذلك الجمال الشاهق إلى أنقاض مهدمة وكتل مفحمة.
وحين تتوغل في أي اتجاهات الخرطوم من حيث هذا المدخل تتلقاك الشواهد شاخصة على نهاية كل ما بناه السودانيون على مدى العقود، وتجد تحت كل حجر من هذه الأنقاض قصة، وتنفتح أمامك خيارات أن تروي للناس من هنا ومن هناك، ففي كل صوب قصة، هل تتجه إلى معارك المدرعات؟ أم الاحتياطي المركزي؟ أم المدينة الرياضية؟ أو تتجه إلى سلاح الإشارة؟ أو حتى معارك وجولات المقرن نفسه؟
وعند سؤال: لماذا ظل السودان هو نفسه بذات السمة السيادية ولم تنعرج به أقدار التاريخ لمحوه وإعادة رسمه من جديد؟ هنا تتراقص أمام عينيك قصة بيت الضيافة والحرس الرئاسي، وكيف صُدت أقدار بأقدار، لو كتب لها التحقق لتغير وجه التاريخ في هذه البلاد.
وتعد معركة بيت الضيافة مقر الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان القائد العام للجيش السوداني رئيس مجلس السيادة السوداني قصة جديرة بالحكي، وربما بالأساطير التي حيكت حولها وفيها تطابق من جموح الخيال بصلابة الواقع.
يقول الراوي -الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، وهو الذي كان جزءا من القوة المسماة "الحرس الرئاسي" المنوط بها حماية الرئيس وبيته ومكتبه، والتصدي لكل مهددات أمنه كبيرة أم صغرت- إن القوى المقاتلة التي ينطوي عليها هذا التشكيل العسكري لا تتعدى 400 رجل، أعدت نفسها بالممكن من العتاد والمعدات والأسلحة التي زادت على الشخصية بـ3 دبابات وعدد من العربات القتالية المدرعة.
وقد أعدت القوة نفسها للاحتمالات التي تجري بين عينيها، من تحشيدات وتموضعات لقوات الدعم السريع بما سماها المتحدث "دلالات المعركة" بلغة الاستخبارات العسكرية، فقد كانت "الدعم السريع" تحتل مواقع عالية الأهمية الإستراتيجية في العاصمة والأقاليم، وقد أصبحت خارج السيطرة، بل كان سعيها حثيثا وشيكا، فقد حازت بين يديها كل الممكن للسيطرة على البلاد.
"بيت الضيافة" هو مجمع يحتوي منزل الرئيس ومكاتبه ومباني لمهمات متعلقة بمختلف خدماته، وكانت هذه المساحة الواقعة في الجزء الجنوبي من القيادة العامة للجيش والمحاذية لها جنوبا مباني جهاز المخابرات العامة والمطلة شرقا على القاعدة الجوية مسرحا لأهم معارك هذه الحرب، خاصة في يومها الأول، إذ إنها كانت الهدف الأول للدعم السريع التي بإسقاطها تتداعى بقية البلاد باعتبارها موقع رأس الدولة، أو هكذا جرت الروايات والتحليلات.
كان على الحرس الرئاسي بقوام 400 مقاتل و3 دبابات وعدد من العربات المدرعة أن يواجه أكثر من 200 سيارة مقاتلة مجهزة بأسلحة فتاكة من قبيل الرباعيات والثنائيات، حيث تقل السيارة الواحدة نحو 7 مقاتلين، في حين تحيط هذه القوة بالقيادة العامة، بما فيها منزل الرئيس.
ويقول المتحدث "ظل القادة طوال ليل الجمعة الذي سبق فجر اندلاع الحرب يراقبون المشهد بما توصله الكاميرات إلى غرفة التحكم، كانت قوات الدعم السريع قد تموضعت في مواقع تحيط بالقيادة العامة من كل الاتجاهات".
وأوضح أنه من الجهة الجنوبية كانت قوات خاصة من الدعم السريع تستقر في مبنى المؤتمر الوطني غربي المطار، وهو لا يبعد عن بيت الضيافة أكثر من كيلومتر واحد، كما أن هناك قاعدة عسكرية للدعم السريع في المباني المجاورة، فيها منزل قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو ، والمكان هو حي المطار الذي يقطنه كبار موظفي الدولة.
تحول المكان إلى ثكنة عسكرية تتبع قوات الدعم السريع وتتمركز قواتها المدفعية بالقرب من القاعدة الجوية شرقي بيت الضيافة، ومن وراء كل ذلك القوات الخاصة في حي الصفا شرقي المطار، وقد أظهر الرصد الإلكتروني وضعها في حالة استعداد وأسلحتها الرباعية موجهة صوب القيادة العامة، وهي القوة التي أنيطت بها حماية مطار الخرطوم قبل الحرب.
أتمت الدعم السريع تجهيز معدات الحفر، وضعت إحداها في القاعدة الجوية والأخرى عند السور الذي يربط بين حواف بيتي القائد العام للجيش السوداني البرهان وقائد قوات الدعم السريع دقلو، والهدف هو تحطيم الأسوار بين هذه المنازل والمقرات لتقصير مسافة الاقتحام دون عناء الالتفاف لمسافات أطول.
ويقول المتحدث -الذي كانت تجري الأحداث أمام ناظريه- "في تمام الساعة التاسعة إلا 10 دقائق من صباح السبت 15 أبريل/نيسان 2023 انطلقت الطلقة الأولى في منطقة المدينة الرياضية جنوبي الخرطوم، وسرعان ما انتقلت الاشتباكات إلى البوابات والمداخل المحيطة بالقيادة العامة، بما فيها بوابة بيت الضيافة".
حينها، وفي تمام الساعة التاسعة و10 دقائق أُبلغ الرئيس البرهان باندلاع الحرب، وأن القتال يدور عند بوابة بيته بالتحام من المسافة صفر بين قوات حرس الرئاسة والمهاجمين من قوات الدعم السريع.
تحركت يومها قوات الدعم السريع من موقع المؤتمر الوطني للسيطرة على موقع جهاز الأمن والمخابرات الواقع في الجوار الجنوبي لبيت الضيافة، لكن دبابات الحرس الرئاسي صدت رتلا من العربات القتالية كانت قد اندفعت باتجاه بيت القائد العام، ودمرت رتلا آخر كان خارجا من منزل حميدتي.
وانتهى اليوم الأول للحرب بصد الحرس الرئاسي كل الهجمات التي تلقاها من جهتي الشرق والجنوب، ولكن الثمن كان استشهاد 11 عنصرا من قوات الحرس الرئاسي وخسارة دبابة ومدرعتين إثر تعرضهما لقصف بمدفع كورنيت من قوات الدعم السريع.
بدأت معركة اليوم الثاني عند مشرق شمسه، ولاحظ القادة عبر دائرة المراقبة الإلكترونية أن قناصة الدعم السريع قد اتخذوا مواقعهم في برج قيادتهم غربي القيادة العامة، وسرعان ما صدرت التعليمات بتدمير البرج، فعاجلته دبابة بزخات من القذائف، فدمرت البرج مع تركيزها على الطابق الرابع، حيث منظومة الاتصالات الخاصة بالدعم السريع (دي إم آر).
ردت قوات الدعم السريع بتكثيف هجماتها من 3 جهات، من جهة الجنوب حيث سيطرت في الساعات الأولى لاندلاع الحرب على مقرات جهاز المخابرات واتخذت منها مرتكزا قريبا، ومن جهة الغرب باستهداف مكثف للبوابة الرئيسية الغربية لبيت الضيافة، ومن جهة الشرق ركزت ضرباتها على القيادة العامة، خاصة على مقر الرئيس.
وفي هذا اليوم، تمت عملية خاصة لتعزيز قدرات الحرس الرئاسي وغيره من القوة الموجودة بالقيادة، فقد استطاع العقيد أبو بكر السِّريو دخول الخرطوم عبر جسر النيل الأزرق الفاتح على القيادة العامة من جهة الشمال.
"وعلى الرغم من قلة عدد القوة فإنها كانت ذات أهمية كبيرة في ذلك الظرف، إذ إنها من قوات المهام الخاصة" حسب ما يقول المتحدث، مضيفا "وظلت القوات المدافعة عن القيادة العامة وبيت الرئيس تصد الهجمات التي كانت تتدفق موجة إثر موجة".
وفي اليوم الثالث استطاعت قوة من الدعم السريع بقيادة القائد الثاني لقوات الدعم السريع عبد الرحيم دقلو السيطرة على مبنى القوات البرية عند المدخل الغربي للقيادة العامة، وباشرت نصب قناصاتها، لكن ضابطا نبيها قاد الدبابة الوحيدة المتبقية لدى الحرس الرئاسي بعد تدمير الأولى وتعطل الثانية، واستطاع هذا الضابط -وبإسناد من قوات مشاة بأسلحة الهاون- تشتيت القوة المهاجمة، قبل أن يستقر في مبنى القوات البرية.
توالى الهجوم على القيادة العامة -بما فيها بيت الرئيس وهو داخله برفقة نائبه الفريق شمس الدين كباشي- على مدى 7 أيام بهدف السيطرة عليها، ولما خابت هذه الهجمات تحولت إلى حصار بالمدفعية دام لما يقارب العامين، وداخل القيادة الآلاف من الجنود والقادة، بما فيهم هيئة القيادة التي كانت تدير الحرب في البلاد من بين ثغرات الحصار.
خسر الجيش السوداني داخل أسوار القيادة آلاف الشهداء، لكنها لم تسقط، حتى استطاع الجيش فك الحصار عنها في 24 يناير/كانون الثاني الماضي.
وبفك حصار القيادة تداعت انهيارات قوات الدعم السريع، إلى أن استكمل الجيش استرداد ولاية الخرطوم كاملة عدا بعض الجيوب في غرب وجنوب مدينة أم درمان.
لا تستمد قصة معارك القيادة العامة -خاصة بيت الضيافة- أهميتها لكونها الأعنف، في مسار حرب تجاوزت معدلات عنفها كل تجربة وخبرة خاصة بالسودان، بل للأهداف الإستراتيجية والسياسية التي ارتبطت بها، إذ كان يعني سقوطها قتل رئيس البلاد أو أسره، وهو ما كان سيقود حتما إلى استكمال مهمة تقويض النظام الدستوري مهما كان الجدل بشأن مشروعيته، وإن كان قد كتب لهذا الهدف وقتها التحقق لتغير مجرى التاريخ ولأصبح السودان اليوم كيانا أو كيانات غير التي نراها.