في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تمر العلاقات بين رواندا والكونغو الديمقراطية بحالة من التوتر المتزايد في الشهرين الأخيرين نتيجة تصاعد الصراع في شرق الكونغو الذي تعد حركة إم 23 المتمردة محركه الرئيس، بعد سيطرتها على مناطق إستراتيجية قبل دخولها اليوم الاثنين إلى غوما عاصمة إقليم شمال كيفو، وهذا أدى إلى نزوح آلاف المدنيين وتصاعد الأزمة الإنسانية.
وفي تداخل بين الملفات الداخلية والخارجية في المنطقة تتهم الكونغو وأطراف أخرى رواندا بتقديم الدعم للحركة المتمردة وهو ما تنفيه كيغالي، ما يثير المخاوف من انزلاق البلدين إلى حرب مباشرة لن تنجو دول الجوار من تداعياتها.
ومن خلال الإجابة عن 6 أسئلة يرسم هذا التقرير خريطة كاشفة للمفاتيح الأساسية لهذا الصراع الشديد التعقيد والبالغ الخطورة.
مثّل انهيار جهود الوساطة التي قادتها أنغولا بين الكونغو الديمقراطية ورواندا منتصف ديسمبر/كانون الأول 2024 مؤشرا خطرا على مدى التأزم الذي بلغته علاقات البلدين على خلفية الصراع المستمر في شرق الكونغو، والذي تتهم كينشاسا جارتها في منطقة البحيرات كيغالي بتعقيده من خلال دعم حركة إم 23 المتمردة الناشطة في مقاطعة شمال كيفو الإستراتيجية.
أعقب هذا الانهيار تسارع ملحوظ للتطورات الميدانية مع تصاعد حدة المعارك بين الجيش الكونغولي ومسلحي الحركة الذين تمكنوا من توسيع مناطق سيطرتهم في شمال كيفو، ومن ثم إعلانهم اليوم السيطرة على مدينة غوما عاصمة المقاطعة، مما دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى التحذير من خطر "اندلاع حرب إقليمية".
تعد هذه التطورات امتدادا للصراعات المستمرة التي تعيشها منطقة شرق الكونغو الديمقراطية منذ عقود نتيجة تحولها إلى ساحة حرب تنخرط فيها مجموعة كبيرة من الفصائل المسلحة، حيث يوصف هذا الصراع بأنه واحد من أكثر النزاعات دموية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث يقدر عدد ضحاياها قرابة 6 ملايين.
وتعد مناطق كيفو الشمالية والجنوبية وإيتوري شرقي البلاد بؤرة لصراع تختلط فيه الدوافع السياسية والاقتصادية والعرقية العابرة للحدود، حيث تحولت المقاطعات الحدودية الثلاث الغنية بالموارد الطبيعية إلى حلبة تنافس جيوسياسي حاد بين جيران الكونغو الديمقراطية، ما ساهم بشكل مباشر في تعقيد أزمات الأخيرة.
يعج شرق الكونغو الديمقراطية بنحو 100 مجموعة مسلحة تعد حركة إم 23 أبرزها، وتكشف ملابسات نشأتها عن التعقيدات التي تتسم بها الأوضاع في العملاق الأفريقي المأزوم، حيث تأسست عام 2012 على يد مقاتلين سابقين انشقوا عن الجيش الكونغولي زاعمين أن كينشاسا لم تف بالتزاماتها معهم وفقا لاتفاقية سلام أبرمتها معهم عام 2009 وأنهوا بموجبها تمردهم وانضموا إلى القوات المسلحة للبلاد.
ويشير مقال منشور على "المركز الدولي لمكافحة الإرهاب" ومقره لاهاي إلى أن الحركة أظهرت حال تشكيلها قدرات عسكرية مكنتها من تحقيق تقدم سريع على الأرض، معلنة سعيها لتحقيق مجموعة من الأهداف تتضمن حماية مجتمعات التوتسي في شرق البلاد، والتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام لعام 2009، ومعالجة قضايا الحكم مثل الفساد ونقص الخدمات الأساسية في المنطقة، وانتهت هذه الجولة من الصراع بهزيمة الحركة وفرار مقاتليها إلى رواندا وأوغندا وتوقيعها اتفاقية سلام مع كينشاسا عام 2013.
تاريخيا يرتبط تشكل هذه المجموعة بالصراع على الأراضي في شرق الكونغو والناتج عن مجموعة عوامل أهمها الترتيبات التي اتخذتها بلجيكا المستعمر السابق لرواندا والكونغو، والتي وضعت العديد من المجموعات العرقية في مواجهة مباشرة لإثبات أحقية السيطرة على الأراضي الزراعية الخصبة في شرق البلاد، وقد وثقت تقارير أممية وحقوقية اتهام الحركة بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق ضد المدنيين تتضمن عمليات الإعدام بإجراءات موجزة، والاغتصاب، والتجنيد القسري للمدنيين، بما في ذلك الأطفال.
أواخر عام 2021 استأنفت مجموعات من الحركة نشاطها العسكري في شمال كيفو نتيجة ما اعتبرته فشلا في معالجة الأسباب الجذرية للصراع، والتوترات الإقليمية المستمرة، والمنافسة على السيطرة على شرق جمهورية الكونغو الغني بالمعادن.
وخلال الشهور الماضية أحرزت قوات الحركة مكاسب ميدانية كبيرة في مواجهة الجيش الكونغولي وحلفائه وقوات حفظ السلام الأممية خلال ديسمبر/كانون الأول ويناير/كانون الثاني الحالي، مفجرةً أزمة متجددة بين الكونغو ورواندا التي تتهمها كينشاسا وأطراف أخرى لا بتقديم الدعم للمتمردين فقط بل بمشاركة قواتها الفعلية في المعارك.
تسيطر الحركة على مناطق شاسعة في جنوب شرق مقاطعة شمال كيفو، وقبل أيام سقطت في قبضتها مدينة ساكي الإستراتيجية الواقعة على بعد 27 كيلومترا إلى الغرب من غوما، ما مهد الطريق أمام تقدمها حتى إعلانها اليوم السيطرة على الأخيرة التي تعد عاصمة إقليمية يقطنها نحو مليوني شخص وتمثل المركز الأمني والإنساني الرئيس في المنطقة.
ووفقا لمراقبين فإن أهمية هذا التقدم الذي أحرزته الحركة يتجلى في منحها القدرة على السيطرة على الوضع الإنساني للسكان المحليين والنازحين بالنظر إلى مركزية الدور الذي تلعبه غوما في هذا المجال، كما أنه يعزز موقف الحركة في أي جولة تفاوض مستقبلية مع الحكومة.
وخلال السنوات الأخيرة عملت إم 23 بشكل مستمر على توسيع مناطق حكمها في شرق الكونغو الذي تنتج مناجمه مواد خاما حيوية مثل الكوبالت والنحاس والتنتالوم والتنجستن والقصدير، فضلا عن كميات وفيرة من الذهب.
ويؤكد مقال شارك في كتابته الباحث الأول في معهد الدراسات الدانماركية بير شوتن أن هذه السيطرة وفرت للحركة القدرة على توليد مصادر دخل ذاتية بالاعتماد على إستراتيجية تنطوي في جوهرها على استبدال السلطات الكونغولية وإصلاح الحكم المحلي في المناطق التي تحكمها، والاستفادة من الأراضي الغنية بالموارد المعدنية والاستيلاء على طرق التجارة الإستراتيجية وإنشاء نظام ضريبي متقن بما يمكنها حتى من الحصول على مصادر مادية من دون السيطرة المباشرة على المناجم.
ويشير المقال إلى أنه من خلال هذه الإستراتيجية تستطيع الحركة مواصلة نشاطاتها المسلحة، وتعزيز قبضتها السياسية والإدارية على السكان، كما أن سيطرتها على طرق تجارية رئيسة شرق الكونغو تزيد من أهمية الحركة في صراع القوى الإقليمية للحصول على ثروات المنطقة.
مثّل شرق الكونغو الديمقراطية ساحة تنافس جيوسياسي حاد بين دول الجوار، تتشابك فيه الدوافع الأمنية والعرقية والاقتصادية مع الطموحات الإقليمية، التي يغذيها ضعف الدولة الكونغولية، الناجم عن عقود من الصراعات المتصلة.
وتُسيل رواسب المواد الخام الهائلة في "رجل البحيرات المريض" لعاب العديد من القوى الإقليمية المتنافسة، حيث يحتوي شرق الكونغو على مواد حيوية للتحول العالمي في مجال الطاقة والنقل، وهناك يشتعل الصراع على تهريب المعادن كالقصدير والتنجستن والألماس، في حين يُنقَل كلّ من الذهب والكولتان عبر الحدود إلى رواندا وأوغندا ويُعاد بيعهما من هناك.
وفي هذا السياق تمثل العلاقة بين حركة 23 مارس والحكومة الرواندية أحد أكثر المواضيع إثارة للجدل، حيث تكرر رواندا باستمرار نفيها تقديم الدعم للمجموعة المتمردة في حين أوردت مجموعة خبراء الأمم المتحدة بشأن جمهورية الكونغو الديمقراطية معلومات مفصلة في تقاريرها حول الدعم العسكري الرواندي للحركة، والذي ينطوي على جوانب مختلفة كالمقاتلين والمساعدات اللوجستية والدعم السياسي.
وفي البحث عن الدوافع الكامنة وراء هذا الدعم يشير بعض المراقبين إلى احتضان شرق الكونغو لمجموعة رواندية متمردة تدعى "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" التي وصفها مندوب كيغالي في الأمم المتحدة بأنها "جماعة مسلحة إرهابية تشكل تهديدا وجوديا لرواندا"، متهما الجيش الكونغولي بتقديم الدعم المستمر لها.
بالإضافة إلى ما سبق يفسر تقرير أعده رئيس مكتب مؤسسة "كوناراد أديناور" الألمانية في كينشاسا جاكوب كريستيان موقف كيغالي جزئيا باعتماد رواندا الاقتصادي على تصدير المواد الخام التي تأتي في الأساس من الكونغو، حيث لا تتوفر هذه المواد الخام إلا بكميات محدودة للغاية في البلاد.
وللتدليل على ذلك يورد التقرير عددا من الأمثلة منها ربطه بين الزيادة الكبيرة لصادرات الكولتان الرواندية في السنوات الأخيرة والتوسع الإقليمي لحركة إم 23 التي استولت على منجم روبايا، الذي يقدر الخبراء أنه أكبر منجم لهذا المعدن في العالم.
تلعب الأمم المتحدة دورا محوريا في معالجة الصراع المستمر في شرق الكونغو الديمقراطية، حيث تعد البعثة الأممية لتحقيق الاستقرار في جمهورية الكونغو الديمقراطية (MONUSCO) عنصرا أساسيا في استقرار المناطق المتأثرة بالعنف، وتضم البعثة في صفوفها آلاف الجنود وأفراد الشرطة والخبراء والمتطوعين، وتأتي بنغلاديش والنيبال وجنوب أفريقيا في مقدمة الدول المساهمة بالعسكريين، في حين تتصدر كل من السنغال ومصر وبنغلاديش قائمة المساهمة بأفراد الشرطة.
وبميزانية تزيد على المليار دولار سنويا تمارس البعثة مهام متعددة، تتضمن حماية السكان المعرضين للخطر في ظل الصراعات المستمرة، وتقديم المساعدات الغذائية والطبية والإيوائية وخدمات الدعم النفسي للنازحين والمتضررين من النزاع.
بجانب ما سبق ترصد الأمم المتحدة وتوثق انتهاكات حقوق الإنسان، وتقدم الدعم للمبادرات الإقليمية الرامية إلى تحييد الجماعات المسلحة وتهدئة التوترات بين الكونغو ورواندا كعمليتي لواندا ونيروبي.
وفي بياناتها المتتابعة تؤكد الأمم المتحدة على ضرورة معالجة الاستغلال غير المشروع للموارد الطبيعية، الذي يشكل سببا رئيسا للصراع، وتشمل جهودها تعزيز الشفافية في قطاع التعدين وإنشاء آليات لإدارة الموارد بشكل مسؤول.
ورغم هذه الجهود، تواجه البعثة تحديات كبيرة ناتجة عن تعقيد الأوضاع في المنطقة مع تطاول المدة الزمنية للصراع فيها، خاصة مع نقص التمويل الذي يحد من قدرتها على الاستجابة الكاملة لاحتياجات السكان.
تبدو الآفاق المتوقعة للأزمة الحالية بين الكونغو الديمقراطية ورواندا معقدة، طارحة مجموعة من السيناريوهات المحتملة:
تهدد التطورات الميدانية الأخيرة والإجراءات التصعيدية بين الطرفين بإشعال حرب إقليمية، حيث وصفت وزيرة الخارجية الكونغولية تيريز كاييكوامبا واغنر دخول قوات رواندية أراضي بلادها بأنه "عدوان مباشر وإعلان حرب".
يعزز هذا السيناريو فشل المبادرات السلمية السابقة، وأهمية السيطرة على المناطق الغنية بالموارد الطبيعية في شرق الكونغو للعديد من الأطراف ومنهم رواندا.
من خلال تدخل الوسطاء والمؤسسات الدولية والقارية المعنية بكبح جماح الأزمة، فبينما دعا أنطونيو غوتيريش "قوات الدفاع الرواندية إلى التوقف عن دعم حركة إم 23 وإلى الانسحاب من أراضي جمهورية الكونغو الديمقراطية"، نددت واشنطن بما وصفته باعتداءات رواندا وإم 23، منادية -إلى جانب بريطانيا وفرنسا- بسحب كيغالي قواتها والدعوة إلى وقف إطلاق النار.
ورغم أن هذه الجهود قد تفلح في تهدئة التوتر -فمن دون الوصول إلى حلول سلمية تغلق الملفات الدامية بين الطرفين- فإن هناك العديد من التحديات، منها انعدام الثقة التامة نتيجة النزاعات التاريخية والاختلافات السياسية، ووجود قضايا صراعية متجذرة في شرق الكونغو مثل الانقسامات العرقية والتنافس على الموارد الطبيعية والمحاسبة على الانتهاكات بحق المدنيين.
وفق هذا السيناريو يتفادى الطرفان الانجرار نحو الحرب الشاملة، نتيجة التكلفة الاقتصادية والإنسانية العالية والتحديات الداخلية التي يواجهها البلدان، بجانب احتمال تورط أطراف إقليمية أخرى في الحرب كأوغندا وبوروندي ما يهدد بإشعال منطقة البحيرات الكبرى، ما يزيد من الضغوط الدولية للحيلولة دون انفجار الأوضاع.
وفي المقابل فإن هذا السيناريو يرجح استمرار حالة السيولة الأمنية في شرق الكونغو من خلال مواجهات غير مباشرة وحروب وكالة تستخدم فيها المجموعات المتمردة المعارضة، مستغلة حالة الفراغ الأمني في المنطقة وهو ما يعني استدامة معاناة المدنيين الواقعين بين رحيي الصراع.