على عكس الكثيرين في السودان الذين فرّوا من القتال أو احتموا بمنازلهم عند اندلاع الحرب الدامية بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان العام الماضي، اختارت طبيبة النساء والتوليد، صفاء علي، البقاء.
على مدار أشهر، بقيت تتوجّه إلى مقرّ عملها في مستشفى الولادة الرئيسي بأم درمان، على الرغم من دوي الرصاص وقصف المدافع الذي غطّى الأجواء.
كانت صفاء تقود سيارتها نصف النقل متوجهة إلى المستشفى، الذي يُعدّ الأكبر من نوعه في السودان، عبر طرق مكتظة بالجنود، وسحب الدخان الأسود تغطّي السماء بفعل المعارك، وكان المدنيون يعيشون حالة من الفزع والخوف.
وقالت صفاء: "لن أترك النساء الحوامل يواجهن مصيرهن وحدهن. يجب أن أكون بجانبهن... إنها مسؤولية كبيرة في هذه الفترة الحرجة".
تقول إن حياتها أصبحت مرتبطة بهؤلاء النساء، مشددة على أنها لم تكن لتغفر لنفسها إذا تركتهن لمصير مجهول.
وتضيف: "حياتي مرتبطة بالمستشفى وبالأمهات والأطفال. لم أستطع مغادرتها لهذا السبب".
تصف صفاء اللحظات الأولى للعمل خلال الحرب بأنها "قاسية وحزينة". وتشير إلى ارتفاع عدد وفيات الأطفال بسبب صعوبة الوصول إلى المستشفى، إضافة إلى زيادة حالات النزيف بين النساء الحوامل أثناء الولادة.
مع اشتداد القتال واقتراب قوات الدعم السريع من محيط المستشفى، أصبح من الصعب الاستمرار بالعمل، مع تعرّض المستشفى للقصف.
لذلك، قرّرت صفاء الانتقال إلى المستشفى السعودي المتخصّص بالنساء والتوليد، الواقع في الأجزاء الشمالية من مدينة أم درمان.
واصلت صفاء عملها في المستشفى الجديد، حيث أجرت عشرات العمليات للنساء من مختلف المناطق على مدى عدّة أشهر، إلى أن تدهورت الأوضاع الأمنية في المنطقة. ومع استمرار القصف على المستشفى، أصبحت المهمة شبه مستحيلة، خاصة بعد مقتل أحد العاملين نتيجة القصف.
توقّف العمل في المستشفى السعودي، لكن ذلك لم يثنِ صفاء عن متابعة رسالتها الإنسانية. قررت الذهاب إلى النساء في منازلهن أو في مراكز الإيواء التي خُصّصت لاستقبال النازحين.
وفي لحظة إلهام، خطرت لصفاء فكرة إنشاء قسم جديد للنساء والتوليد في مستشفى النو، وهو المستشفى الوحيد الذي استمر بالعمل داخل المدينة. وقالت: "رأيت العديد من النساء الحوامل يجلسن على قارعة الطريق بالقرب من المستشفى المدمّر، بلا مكان يلجأن إليه".
عرضت صفاء فكرتها على زملائها في المستشفى، ورغم وجود بعض التحفظات بشأن صعوبة التنفيذ، أصرّت على البدء في قسم الجراحة.
وتقول إن تنفيذ الفكرة كان في غاية الصعوبة مع استمرار المعارك بين الجيش وقوات الدعم السريع. وأضافت: "كانت المعارك دائرة في محيط المستشفى، لكننا نجحنا في نقل عدد من الأجهزة والمعدات من المستشفى السعودي إلى مستشفى النو، وسط تفانٍ كبير من الزملاء والزميلات".
تمكّن الفريق من إجراء العديد من عمليات الولادة بنجاح وبدون مضاعفات. ومع مرور الوقت، نجحوا في بناء قسم جديد للنساء والتوليد، ولا يزال يعمل حتى اليوم.
صفاء، المولودة في أم درمان درست الطب في جامعة أم درمان الإسلامية، تحمل شهادة الدكتوراه السريرية في طب النساء والتوليد، إلى جانب ماجستير في الموجات الصوتية المتقدمة ودبلوم في الخصوبة وأطفال الأنابيب. هي متزوجة من لاعب كرة القدم الشهير والمدير الفني للمنتخب السوداني محمد عبد الله "مازدا"، ولديهما ثلاث بنات، جميعهن يدرسن الطب، إضافة إلى ابن واحد.
في بداية الحرب، قرّرت الأسرة اللجوء إلى مصر، كحال العديد من السودانيين، لكن صفاء فاجأت زوجها وأولادها بقرارها البقاء في أم درمان، وعدم مغادرة البلاد.
عبّرت عائلتها عن قلقها على حياتها بسبب الحرب، ودخلت صفاء في نقاشات صعبة معهم، لكنها استطاعت إقناعهم بأنها ستظلّ في السودان لتقديم المساعدة للأمهات والأطفال في ظل تلك الظروف القاسية.
تعيش صفاء الآن مع شقيقاتها في منزل العائلة في حي الأمراء في أم درمان. تخرج للعمل صباحاً وتعود في المساء. تقول : "الوضع الأمني مستقرّ نسبياً في أم درمان حيث أعيش. لا توجد مواجهات مباشرة بين الجيش وقوات الدعم السريع بعد أن استعاد الجيش السيطرة على المنطقة قبل أشهر".
وبعد أكثر من عام ونصف على اندلاع الحرب، تغيرت وجهة نظر عائلتها من القلق عليها إلى الفخر بما حققته، خصوصاً بعدما اختارتها بي بي سي ضمن قائمة "100 امرأة" لعام 2024.
قبل اندلاع الحرب، كانت صفاء قد بنت سمعة طيبة بين زملائها في الوسط الطبي. يقول إبراهيم، الذي عمل معها لفترات طويلة في مجال التمريض: "دائماً ما كانت تسعى لمساعدة النساء الحوامل. في كثير من الأحيان، كانت تتكفل بتكاليف العمليات للنساء اللواتي لا يملكن المال، وتطلب ألا تعرف المريضات أنها من دفعت المصاريف".
ويضيف إبراهيم أن صفاء أصبحت مصدر إلهام للعديد من الطبيبات الصغيرات والمتدرّبات، خاصة بعد ما أظهرته من تفانٍ بعد نشوب الحرب.
ويتابع: "كان بإمكانها أن تغادر مع أسرتها إلى القاهرة وتعمل هناك وتحقق أموالاً طائلة، لكنها فضّلت البقاء لمساعدة النساء والأطفال، رغم المخاطر والتحديات الكبيرة".
بين الحين والآخر، وعندما تكون شبكة الهاتف جيدة، تتواصل صفاء مع زوجها وأولادها في القاهرة. يطلبون منها الذهاب للعيش معهم هناك. لكن صفاء تحثّ بناتها، اللواتي يدرسن الطب، على العودة إلى السودان للانضمام إليها في مشروعها الإنساني. وتقول: "أومن بما أفعله. نحن هنا بحاجة إلى كل يدٍ تُساعد".
ومع انخفاض وتيرة المعارك والقصف الجوي، تعود صفاء إلى المستشفى السعودي الذي دُمّر بسبب القصف، وتتجوّل في أرجائه متأملة حالته المدمرة.
رغم الحزن الذي ألمّ بها، تؤكد بثقة: "سنُعيد بناء المستشفى، وسنستعيد الحياة فيه من جديد ليواصل تقديم الخدمات الطبية للأمهات".