دخلت الحكومة الحالية برئاسة نجيب ميقاتي مرحلة تصريف الأعمال منذ أكتوبر/تشرين الأول 2022، مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية السابق ميشال عون.
وانتظر اللبنانيون أكثر من عامين، حتى تتفق القوى السياسية اللبنانية، بـ"رعاية سعودية أمريكية فرنسية" بحسب تقارير صحافية، على ترشيح قائد الجيش جوزاف عون لمنصب رئيس الجمهورية دون سواه.
وكلّف الرئيس الجديد، جوزاف عون، القاضي نوّاف سلام لتشكيل حكومة جديدة، بعد نيل الأخير أكثرية الأصوات في الاستشارات النيابية الملزمة لاختيار رئيس حكومة.
وبحسب التجارب الأخيرة السابقة، يتوقع بعض اللبنانيين أن يتأخر تشكيل الحكومة. فسبق وأن عرف لبنان شهوراً طويلة بلا تشكيل حكومة وبلا رئيس للجمهورية. واستغرق أحياناً تشكيل بعض الحكومات، مدة أطول من عمر الحكومة ذاته.
فما هي الأسباب والحسابات التي تؤخر أو تعرقل تشكيل الحكومات في لبنان؟
رأى الكاتب الصحافي نقولا ناصيف، أنّ تشكيل الحكومات في لبنان لم يكن يستغرق وقتاً قبل اتفاق الدوحة عام 2008.
وقال ناصيف إن الحكومة قبل الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975، كانت تستغرق اسبوعاً أو عشرة أيام كحدّ أقصى، لأن السلطة الإجرائية آنذاك كانت بيد رئيس الجمهورية.
وشكّل اتفاق الدوحة عام 2008، نهاية لأزمة سياسية بين الموالاة والمعارضة استمرت حوالى 18 شهراً، ونجح في تجنب حرب أهلية جديدة، بعد إعلان حكومة فؤاد السنيورة آنذاك، أن شبكة اتصالات حزب الله غير قانونية واندلعت مواجهات في الشارع بين مختلف الفصائل السياسية والطائفية المتصارعة.
"كانت طبيعة اللعبة حينذاك ديمقراطية دون اعتراضات. وكان تأليف الحكومة يتم بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلّف" يؤكد ناصيف.
وحتى بعد اتفاق الطائف، وفق ناصيف، كان تأخر التأليف يصل إلى أربعة أيام لا أكثر، لأنّ "سوريا كانت تفرض الوزراء وتسميهم وتتدخل أحياناً في توزيع الحقائب، وهي من كانت تختار أو توافق على رئيس الحكومة" بحسبه.
وكان اتفاق الطائف الذي رعاه المجتمع الدولي والموقع في مدينة الطائف السعودية 1990، وضع نهاية للحرب الأهلية اللبنانية وتم تعديل الدستور اللبناني بناءً على هذا الاتفاق الذي كان من نتائجه تقليص سلطات رئيس الجمهورية.
وأوضح ناصيف أنّ الأخطاء الجسيمة التي تُرتكب عند تأليف الحكومات بدأت عام 2008، مع اتفاق الدوحة الذي "شوّه اتفاق الطائف في آلية تأليف الحكومة".
وقال إنّ الأحزاب أصبحت بعد الاتفاق، شريكة لرئيس الجمهورية في تأليف الحكومة: "أي أنّ كل حزب يريد مع حلفائه – في ظلّ الانقسام السياسي – تسمية الوزير وتحديد الحقيبة، وليس رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة المكلّف".
وفي حال رُفض طلب أي حزب، قال ناصيف إنّه يمكن أن يهدد بالمقاطعة أو عدم المشاركة في الحكومة، أو أن يحاول مع حليفه عرقلة تأليفها. وأضاف: "هكذا أصبحت الكتل والأحزاب تتحكم بالحكومة، عوضاً أن تكون هذه من صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية".
وأشار نقولا ناصيف إلى أنّ أول تشكيل حكومة ما بعد اتفاق الدوحة، برئاسة فؤاد السنيورة، سجّل أول رقم قياسي بلغ 44 يوماً. فيما استغرق تأليف الحكومة التي تلتها برئاسة سعد الدين الحريري 39 يوماً.
وقال إنّه أصبح عُرفاً منذ اتفاق الدوحة، أنّ تكون الكتل النيابية هي التي تسمي مرشحيها للوزارة وهي من تختار الحقائب.
يراعي توزيع المناصب السياسية والإدارية والوظيفية الكبرى في لبنان، واقع النظام الطائفي في لبنان أو نظام "الطائفية السياسية".
ولا ينبع هذا التقسيم أو التوزيع من الدستور اللبناني، بل من عُرف لبناني قديم ثُبّت عقب الاستقلال عن فرنسا عام 1943.
ويبلغ عدد النواب في مجلس النواب اللبناني، 128 نائباً، يجب أن يتوزع عددهم مناصفة بين المسلمين والمسيحيين. وتسري المناصفة على وظائف الدولة أيضاً.
بعد ذلك، تقسّم حصة كل طائفة على مذاهبها بحسب النسبة أو حجم الطائفة. المسلمون في لبنان هم سنة وشيعة وموحدون دروز وعلويون.
والمسيحيون هم الموارنة الكاثوليك والروم الأرثوذكس والملكيون الكاثوليك والأرمن الأرثوذكس والسريان الكاثوليك والأرمن الكاثوليك والسريان الأرثوذكس والبروتستانت واللاتين.
يجب أن يراعي توزيع المقاعد في الحكومة أيضاً، المناصفة بين المسلمين والمسيحيين.
وتُقسّم أعلى ثلاث مناصب سياسية في البلاد بين ثلاث طوائف دينية رئيسية.
ويُحصر منصب رئاسة الحكومة اللبنانية بمسلم سنّي، ورئاسة مجلس النواب بمسلم شيعي، ورئاسة الجمهورية بمسيحي من الطائفة المارونية.
وفي حال لم تمثّل الحكومة جميع الطوائف أو استثنت تمثيل طائفة ما عبر وزير واحد على الأقل، يحضر نزاع سياسي حول ما إن كانت هذه الحكومة "ميثاقية" أم لا.
وكلمة ميثاقية نابعة من "الميثاق الوطني اللبناني" أو ميثاق العيش المشترك، الذي كرّس عُرف النظام الطائفي بعد الاستقلال.
وفي تجربة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة، قدّم جميع الوزراء الشيعة استقالتهم من حكومته عام 2006، واتهموها آنذاك بأنها حكومة "غير شرعية" لأنها فاقدة للميثاقية – إذ لا تمثّل جميع الطوائف في لبنان.
ووفق ما هو شائع في مسألة تأليف حكومات في دول تشهد انتخابات ديمقراطية، ينطلق شكل الحكومة من حجم تمثيل الكتل النيابية في البرلمان وفق نتائج الانتخابات النيابية.
وتعقد في لبنان عادة استشارات نيابية ملزمة لتسمية رئيس الحكومة المكلّف، يجتمع خلالها رئيس الجمهورية مع النواب كأفراد أو ككتل نيابية، ويطّلع منهم على اسم الشخص الذي يرشحونه لتكليف الحكومة.
ويكلّف رئيس الجمهورية الشخص الذي ينال أكبر عدد من أصوات النواب.
وفي حال تعادل عدد الأصوات، يعود لرئيس الجمهورية القرار في تكليف أحدهما لتشكيل الحكومة.
ولا يحدد الدستور اللبناني مهلة قانونية لتشكيل الحكومة.
ولا يحق لرئيس الجمهورية سحب التكليف من المكلّف بتشكيل الحكومة في حال فشل الأخير.
كما لا يحقّ لرئيس الجمهورية إقالة رئيس الحكومة أو حلّ مجلس الوزراء.
وهذه الصلاحيات انتُزعت من رئيس الجمهورية عقب اتفاق الطائف في نهاية الحرب الأهلية.
لكن في لبنان، ليس بالضرورة أن تتشكل الحكومة بشكل يتناسب مع نتائج الانتخابات ومع الأكثرية والأقلية في البرلمان.
إذ تتفق القوى السياسية أحياناً في لبنان، على تشكيل حكومة تراعي تمثيل جميع القوى الأساسية -الطائفية والسياسية - وتسمى حكومة وفاق أو حكومة وحدة وطنية.
أو تُعطى المعارضة عدد من الوزراء يمكنها من إسقاط أو عدم تمرير قرار أو مشروع حكومي، وهو ما يعرف بـ"الثلث المعطّل"، أي عندما تحتل المعارضة ثلث مقاعد الحكومة.
ووصف ناصيف الثلث المعطّل بأنه "أمر غير مألوف وغير دستوري" ظهر بعد عام 2008 أيضاً.
وقال إن الحكومة تتألف عادة من أكثرية نيابية، لكن الحكومة، بعد عام 2008، أصبحت تضم المعارضة والموالاة سوياً، وقوّة المعارضة توازي قوة الأكثرية.
ويستعيد ناصيف مثالاً على ذلك تجربة حكومة سعد الحريري التي أُسقطت عام 2011، بعد انسحاب وزراء المعارضة منها (ثلث الوزراء + واحد).
وبالتالي – بحسب رأي ناصيف – "أسوأ إجراء وأخطر عقبة فرضهما اتفاق الدوحة هو الثلث المعطّل".
وأضاف مشيراً إلى أنّ "منطق الحكم هو أن تكون المعارضة في مجلس النواب، والأكثرية تحكم من خلال الحكومة".
جاء انتخاب الرئيس جوزاف عون وتكليف نواف سلام، وسط حركة دبلوماسية نشطة أمريكية وفرنسية وسعودية – بعد شبه قطيعة في العلاقات بين السعودية ولبنان، منذ حادثة احتجاز رئيس الوزراء السابق سعد الحريري في الرياض.
وأشارت الصحف المحلية اللبنانية ومواقع إخبارية عالمية أيضاً، إلى "إيعاز خارجي واضح" ساهم في تسمية رئيس الجمهورية وفي دعم حظوظ ترشيح نواف سلام لرئاسة الوزراء.
ولا تخلو الحياة السياسية اللبنانية من تدخلات خارجية لدول تملك أو تبحث عن نفوذ سياسي أو اقتصادي في المنطقة بحسب المحللين. كما تدخّلت بعض هذه الدول حتى خلال الحرب الأهلية اللبنانية وفق مصلحتها الإقليمية.
وتبدلت الولاءات والتحالفات في لبنان عبر التاريخ وتوزعت بين مصر وسوريا وإيران والسعودية والولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل وغيرها.
وفي مثال على ذلك، يرى البعض أن النظام السوري السابق، كان يملك الكلمة الفصل في تعيين رئيس الحكومة أو رئيس الدولة خلال وجود قواته ومخابراته في لبنان (حتى عام 2005).
فيما كانت مباركة أو مقاطعة السعودية لرئيس حكومة ما، تنعكس سلباً أو إيجاباً على علاقة الحكومة بالرياض وببعض الدول الخليجية أيضاً، ما يؤثر سلباً على قطاعات الاستثمار والتجارة والسياحة.
وعلّق نقولا ناصيف على مسألة "المظلة" أو "الرعاية الخارجية" قائلاً: "لقد جرّبنا المرحلة السورية ثم الإيرانية ويبدو الآن أنّنا سندخل في مرحلة سعودية-أميريكية".
إلى جانب النزاع على عدد الوزراء أو حجم التمثيل في الحكومة، تتنافس القوى السياسية في لبنان على الحقائب الوزارية.
وتميّز القوى السياسية بين وزارات وأخرى، من خلالها تصنيفها "وزارات سيادية"، وهي وزارات المال والداخلية والخارجية والدفاع، ووزارات أقلّ أهمية مثل الوزارات الخدماتية.
ويمكن أن يطيل تأليف الحكومة نزاعاً على حقيبة وزارية بين فريقين سياسيين من الطائفة ذاتها.
بالنسبة لناصيف، "المسألة سياسية وليست دستورية. فالنص الدستوري لا يميّز بين الحقائب، ليست هناك حقائب سيادية وحقائب عادية، ولا حقائب درجة أولى وحقائب درجة ثانية".
وتابع ناصيف مشيراً إلى أنّه "في الأساس قبل الحرب الأهلية لم تكن هناك ما يسمّى "حقائب سيادية"، كانت جميع الطوائف تتناوب على جميع الحقائب".
وأوضح أنّ "موضوع الحقائب تكرّس بعد اتفاق الطائف، وتحوّل إلى مشكلة بعد اتفاق الدوحة".
وتفسير هذا النزاع بسيط بحسب ناصيف، فهو "سباق على السلطة والمكاسب".
وأعطى مثالاً على ذلك، في تمسك رفيق الحريري بوزارة المال طيلة فترة توليه رئاسة الحكومة، أي أنّها كانت من حصة الطائفة السنية دون اعتراض الطائفة الشيعية.
أمّا مطالبة الطائفة الشيعية اليوم بوزارة المال مثلاً هي، وفق نقولا ناصيف، "من أجل القول إنها (الطائفة الشيعية) شريك الحكومة الفعلي عبر هذا الوزير في القرارات الحكومية".
وأوضح مشيراً إلى أنّ وزير المال هو أكثر من يوقع في الحكومة على مراسيم، لأن أغلب القرارات بحاجة إلى نفقة، أي بحاجة إلى توقيعه.
وقال إنّ "إصرار الطائفة الشيعية على هذه الحقيبة للقول إنه في حال لم يعجبني قرار رئيس الجمهورية أو الحكومة لن أوقع، وعدم توقيعه يوقف إصدار المرسوم".
في 13 يناير/كانون الثاني، كلّف جوزاف عون شخصية جديدة على المشهد الحكومي اللبناني.
نواف سلام يتولى هذا المنصب للمرة الأولى، ولم يعيّن وزيراً في أي حكومة سابقة، على عكس نجيب ميقاتي وسعد الحريري ووالده رفيق الحريري الذي تسلموا منصب رئاسة الحكومة أكثر من مرة واختبروا آلية تأليف الوزارات في لبنان في أكثر من عهد.
رأى ناصيف أنّ تأليف الحكومة لن يواجه عراقيل، ولن يضمّ الثلث المعطّل.
لأن الثنائي الشيعي – بحسب ناصيف - "سيوافق على تأليف الحكومة على مضض، كما وافق على انتخاب الرئيس جوزاف عون على مضض ووافق على تكليف سلام أيضاً على مضض".
وبالنسبة للقوى السياسية الأخرى، قال ناصيف إنه لن تكون هناك مشكلة في التأليف، "فهناك مظلة أمريكية سعودية تدير البلد اليوم، تمسك بالغالبية النيابية في مجلس النواب" بحسب رأيه.