طرابلس- بعد عام على خطة البنك المركزي الليبي لإعادة تنظيم السياسة النقدية وضبط سعر الصرف وتنظيم السياسة النقدية، أظهرت المؤشرات أن النتائج جاءت محدودة للغاية، فالدينار لم يتحسن، وشح السيولة استمر بوتيرة غير مسبوقة، بينما واصلت المصارف التجارية مواجهة أزمات متكررة.
وكشف محافظ مصرف ليبيا المركزي ناجي عيسى العام الماضي عن خطة لضبط سعر الصرف وتفعيل لجنة السياسة النقدية بعد سنوات من الجمود، بهدف استعادة ثقة المواطنين في الدينار، ودعم قيمته، واحتواء التضخم الذي بات هاجسا يوميا في حياة الليبيين.
وتضمنت الخطة التي أعلن عنها في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الماضي -في الاجتماع الأول منذ أكثر من 10 سنوات- ما يلي:
أما الفجوة بين السعر الرسمي للدينار وسوق الصرف الموازية فقد تجاوزت 20%، وحدد مصرف ليبيا المركزي في نشرته لشهر أكتوبر/تشرين الأول 2025 سعر الدولار بنحو 5.38 دنانير ليبية، بينما تراوح سعره في السوق الموازية بين 7.35 و7.50 دنانير، وفق بيانات متداولي العملات في طرابلس وبنغازي، الأمر الذي يعكس استمرار ضعف أدوات السياسة النقدية وتداخلها مع القوى السياسية.
يعزو خبراء بطء الإصلاح النقدي إلى الطبيعة المعقدة للسلطة في ليبيا ، ويقول المصرفي نعمان البوري -في حديث للجزيرة نت- إن المصرف المركزي يعتقد أن الطلب على النقد الأجنبي سببه وفرة السيولة، لكن الحقيقة أن هذا الطلب ناتج عن تمويل بالعجز أي بطباعة أوراق نقدية من دون غطاء.
ويضيف أن سحب نحو 47 مليار دينار (8.6 مليارات دولار) من السوق لم يقلل السيولة فعليًا، بل أعاد هيكلة الكتلة النقدية من تداول فعلي إلى أرصدة مصرفية، مما عمّق أزمة الثقة لدى المواطنين.
ويوضح أن محاولة فرض الدفع الإلكتروني خطوة ضرورية، لكنها ليست حلا سحريا، إذ تحتاج إلى إستراتيجية واضحة وزمن كافٍ لتغيير سلوك السوق، مؤكدا أن تقليص الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي يتطلب تنسيقا صارما بين السياسات النقدية والمالية ووقف أي تمويل بالعجز.
من جانبه، يرى الخبير الاقتصادي سليمان الشحومي، مؤسس سوق المال الليبي، أن الواقع يعكس غياب خطة حقيقية لإنقاذ الدينار، موضحا أن كثيرا من إجراءات المصرف المركزي أقرب إلى ردود فعل إدارية منها إلى سياسة إصلاحية متكاملة.
ويضيف الشحومي أن تعدد الحكومات والإنفاق غير المنضبط شكّلا ضغطا هائلا على العملة المحلية، مشيرا إلى أن الإصلاح الحقيقي يبدأ من التحكم في الإيرادات النفطية وتنفيذ إصلاح مالي شامل للدولة.
أما الكاتب الاقتصادي إبراهيم السنوسي، فيرى أن تعدد سلطات الصرف والرقابة المالية يحول دون تنفيذ أي إصلاحات عميقة، موضحا أن تداخل مراكز القوة يُقيد استقلالية المصرف المركزي ويجعل الإجراءات المتخذة سطحية.
ويضيف أن استمرار الفجوة بين السعرين الرسمي والموازي يخلق بيئة مضاربات مستمرة تؤثر مباشرة في القدرة الشرائية للمواطنين.
تُظهر تجربة ليبيا أن أي خطة نقدية قصيرة المدى لا تكفي في غياب استقرار سياسي ومؤسسي شامل؛ فالإصلاح المالي الحقيقي، وفق خبراء الاقتصاد، لا يمكن أن يتحقّق من دون استقلالية حقيقية للمصرف المركزي وقدرته على إدارة السيولة بمعزل عن تجاذبات السلطة.
وبين محاولات الإصلاح النقدي المتكررة واستمرار الانقسام السياسي، تبدو ليبيا محاصَرة في معادلة مزدوجة: دولة نفطية تملك موارد ضخمة، لكنها عاجزة عن حماية عملتها أو استقرار نظامها المصرفي.
ورغم القرارات والإجراءات التي استهدفت ضبط السوق واستعادة الثقة في الدينار، لا يزال المواطن الليبي يرزح تحت وطأة أزمة السيولة وارتفاع الأسعار التي تؤثر مباشرة على تفاصيل حياته اليومية.
ويبقى السؤال، هل يمكن لأي خطة نقدية أن تنجح قبل تحقيق استقرار سياسي ومؤسسي حقيقي، أم أن إنقاذ الدينار الليبي سيظل رهين تسوية شاملة تعيد للدولة مركز قرارها المالي؟
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة