يواصل الذهب تسجيل قفزات قياسية جديدة، حيث تجاوز -أمس الثلاثاء- حاجز 4200 دولار للأوقية، في ظلّ ازدياد الإقبال على الملاذات الآمنة مع احتدام التوتر التجاري بين واشنطن والصين، وارتفاع التوقعات بأن الاحتياطي الفدرالي الأميركي يقترب من خفض أسعار الفائدة قريبًا.
وجاء الارتفاع بعد تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الواردات الصينية، إلى جانب قيود جديدة على تصدير البرمجيات الحساسة ابتداءً من الأول من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، في خطوة وُصفت بأنها رد مباشر على إجراءات بكين بشأن معادن الأرض النادرة.
ورغم أن الصين دافعت عن موقفها واعتبرته مشروعًا، فإنها امتنعت عن الرد بفرض رسوم جديدة على السلع الأميركية.
وبحسب وكالة رويترز، ارتفع الذهب في المعاملات الفورية بنسبة 1.4% إلى 4074 دولارًا للأوقية، بعد أن بلغ مستوى قياسيًا عند 4078 دولارًا، وقد صعدت العقود الآجلة الأميركية لديسمبر/كانون الأول إلى 4093 دولارًا، قبل أن تتجاوز حاجز 4120 دولارًا للأوقية لاحقًا.
وقال جيوفاني ستاونوفو المحلل في بنك "يو بي إس" إنه في الوقت الذي هدأت فيه التوترات مؤقتا بين واشنطن وبكين فإن "تهديد الرسوم الجمركية الإضافية بنسبة 100% لا يزال قائمًا. ومن المتوقع أن يدعم الطلب الاستثماري والبنوك المركزية استمرار صعود الذهب نحو 4200 دولار للأوقية".
ووفق رويترز، ارتفعت أسعار الذهب بنسبة 53% منذ بداية العام مدفوعة بالمخاطر الجيوسياسية، وتزايد عمليات الشراء من البنوك المركزية، وتدفقات صناديق الاستثمار المتداولة، وتوقعات خفض الفائدة الأميركية.
يتوقّع المتداولون خفضًا في أسعار الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول، باحتمال 95% و79.8% على التوالي، بحسب رويترز.
ويقول راندي سمولوود الرئيس التنفيذي لشركة ويتون للمعادن الثمينة -في حديث لشبكة بلومبيرغ- إن المستثمرين لم يروا شيئًا بعد من إمكانات الذهب و"أنا واثق بأننا سنرى الذهب يتجاوز 5 آلاف دولار خلال العام المقبل، وربما يتضاعف الرقم بحلول نهاية العقد".
ويضيف "الأمر كله يتعلق بالدولار الأميركي، فهو المقياس الذي نستخدمه جميعًا، ومع استمرار ضعف قيمته لا أرى ما يمنع من تجاوز الذهب هذا المستوى".
وفي حديثه للجزيرة نت، قال مصطفى فهمي الرئيس التنفيذي للإستراتيجيات في شركة فورتريس للاستثمار "العالم يعيش اليوم حالة ديون مرتفعة وغير مسبوقة، وعدم استقرار سياسي واسع. ومع استمرار هذه العوامل دون حلول هيكلية حقيقية، فمن المرجّح أن نرى الذهب يتجاوز مستوى 5 آلاف دولار للأوقية عام 2026 أو بعده بقليل".
أما وليد فقهاء مدير الاستثمار في الأهلي للوساطة المالية فقد أوضح أن تصعيد ترامب ضد الصين سيواصل تغذية الطلب على الذهب، متوقّعًا أن يبلغ السعر نحو 4200 دولار قبل نهاية العام، ويتجه إلى 4600 دولار العام المقبل.
الخبير المخضرم إد يارديني (رئيس شركة يارديني للأبحاث) يرى أن دور الذهب كتحوّط ضد التضخم أصبح أكثر وضوحًا، مع سعي البنوك المركزية لتقليل اعتمادها على الدولار بعد تجميد أصول روسيا .
وقال يارديني لمنصة فورتشن "انفجار فقاعة العقارات في الصين، والحرب التجارية التي يقودها ترامب، ومساعيه لإعادة تشكيل النظام الجيوسياسي، جميعها تعزز جاذبية الذهب كملاذ آمن."
وأضاف "نستهدف الآن 5 آلاف دولار بحلول 2026، وإذا استمر الوضع على هذا المنوال فقد يصل إلى 10 آلاف دولار قبل نهاية العقد".
وبناءً على الاتجاه الحالي منذ عام 2023، يرجّح أن يبلغ الذهب 10 آلاف دولار بين منتصف عام 2028 وأوائل 2029.
في عام 2024، توقّع الاقتصادي المعروف بيتر شيف، وهو كبير الإستراتيجيين بشركة يورو باسيفيك لإدارة الأصول، بدايةَ مسار صعودي طويل للذهب.
ومنذ ذلك الحين، قفز المعدن النفيس 46% خلال عام واحد، من 2652 دولارًا إلى نحو 4100 دولار للأوقية.
وفي حديثه لبرنامج ليد-لاغ ريبورت، قال شيف "إذا كان الذهب قد ارتفع سابقًا من 20 إلى 2600 دولار للأوقية، فلا شيء يمنعه من بلوغ 26 ألفًا أو حتى 100 ألف دولار. الذهب لا يتغير.. نحن فقط نستمر في خفض قيمة الدولار".
وبحسب شبكات إعلامية عالمية، يستند شيف في رؤيته إلى حقيقة أن المشكلة ليست في الذهب، بل في تراجع قيمة الدولار نتيجة طباعة النقود المتسارعة.
ووراء العوامل الظرفية كالرسوم والتوترات الجيوسياسية، يكمن عامل أعمق وأكثر استدامة: أزمة الديون العالمية.
فوفق بيانات الخزانة الأميركية، يبلغ الدين الوطني 37.64 تريليون دولار حتى 30 سبتمبر/أيلول 2025، أي نحو 125% من الناتج المحلي الإجمالي .
أما الصين، فبلغ دينها نحو 16.6 تريليون دولار، واليابان 10 تريليونات دولار (236% من ناتجها القومي) في حين وصل الدين العام للاتحاد الأوروبي 14.1 تريليون يورو أي ما يعادل 81.8% من الناتج الإجمالي، وفق يوروستات وستاتيستا.
ويقول وليد فقهاء "العالم اليوم يسير فوق جبل من الديون تجاوز 330 تريليون دولار، وهو ما يدفع البنوك المركزية إلى شراء الذهب لحماية احتياطاتها من المخاطر المتزايدة بالنظام المالي العالمي".
ويرى شيف أن هذه الديون تُضعف العملات الورقية، قائلاً "الذهب لا يتغيّر، كل ما نفعله هو خفض قيمة الدولار عاماً بعد عام بطباعة مزيد من النقود دون رقيب".
يتزايد توجه البنوك المركزية نحو التخلّص من احتياطيات الدولار مقابل شراء الذهب، في تحوّل يُشير إلى تصدّع النظام النقدي القائم.
ويقول كبير الإستراتيجيين بشركة يورو باسيفيك لإدارة الأصول "لم يدرك المستثمرون بعد ما تفعله البنوك المركزية، لكنها بدأت بالفعل بالتخلّص من الدولارات لأنها تعرف ما ينتظر النظام الورقي القائم".
وبرأيه، فإن التضخم لن يعود لمستوى 2% كما يظن الفدرالي الأميركي، بل سيدخل العالم في موجة تضخم طويلة، مما يجعل الذهب أكثر جاذبية بوصفه أصلًا نادرًا وغير قابل للطباعة.
قد يختلف الخبراء في تحديد السعر المستقبلي للذهب (5 آلاف، 10 آلاف، أم حتى 100 ألف دولار للأوقية) لكنهم يتفقون على أن الدين العالمي وتآكل الثقة بالدولار يمثلان الشرارة المستمرة لهذا الارتفاع التاريخي.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن أمام موجة مؤقتة من الصعود أم بداية عصر نقدي جديد يتصدّره الذهب؟
وربما لا أحد يملك الإجابة القاطعة، لكن المؤشرات كلها تقول إن "عصر الذهب لم يبدأ فعليًا بعد".