آخر الأخبار

نملة تحفر في الصخرـ مسرحية تعيد المفقودين اللبنانيين للواجهة

شارك
تعكس الصورة التأثير العاطفي للمسرحية وتصويرها للمختفين.صورة من: Pro Studio

يُعرض في بيروت، عمل مسرحي جديد بعنوان "وداد: النملة يلي عم تحفر بالصخر"، من إخراج لينا أبيض. تتناول القصة رحلة المناضلة وداد حلواني، التي تحولت من زوجة فقدت شريك حياتها إلى صوت رمزي يمثل آلاف العائلات التي لم تتلقَ جوابًا عن مصير أحبائها. المسرحية تسرد هذه الرحلة وتفتح مجددا ملف المخفيين قسرًا في لبنان، والذي لا يزال دون حل جذري.

القضية على خشبة المسرح

الشخصية المحورية هي وداد نفسها، من خلال صورتها الواقعية وأدائها المتجسد على المسرح من خلال الممثلة كريستين شويري، التي قالت في حديث مع DW عربية، حول المسؤولية العاطفية والثقافية لتجسيد شخصية واقعية مثل وداد حلواني: "كان من بالغ الأهميّة أن تتمكّن وداد من رؤية نفسها على المسرح، أن تشعر بأنّ هذه هي فعلاً صورتها، أن لا تشعر بأنّ هناك من يمثّلها بطريقة بعيدة عنها، بل أن تتعرّف على نفسها، على أحاسيسها، وعلى كل ما يخصّها من خلال هذه الشخصيّة".

لم يكن سهلا على كريستين تأدية دور وداد، إذ وجدت نفسها، في مكان وداد مشككة بقوتها في المرور بتجربة مماثلة مريرة، "كان من الصعب عليّ أن أفصل نفسي عن الدور. كنت طوال الوقت أشعر كأنني أختنق. فالحياة التي عاشتها وداد، بالنسبة لي، كانت فوق طاقة أيّ إنسان. لا أستطيع أن أفهم تمامًا كيف استطاعت أن تصمد وتستمر كل هذه السنوات من دون أن تنهار. ما مرّت به ليس سهلًا إطلاقا، وكلما تعمّقتُ في الدور، كنت أقول في داخلي: "لو كنتُ مكانها، هل كنتُ سأتمكّن من الصبر؟"

تلعب الممثلة كريستين شويري دور وداد حلواني في مشهد مؤثر يصور اختطاف زوجها عدنان حلواني خلال الحرب الأهلية اللبنانية.صورة من: Pro Studio

من جهتها قالت وداد حلواني لـ DW عربية، "من خلال العرض، أدركت للمرّة الأولى كم كان الوجع كبيراً، وقلت في نفسي: "وداد، يا حرام، كيف تحمّلتِ كلّ هذا؟". بدأت أتساءل: من أين استمديت تلك القوّة؟ وكيف استنبطتها؟ كان لا بدّ لي أن أكون قويّة في كلّ الأماكن والأوقات، رغم الألم العميق والضيق الشديد، لأنّني كنت مضطرّة إلى منح القوّة لمن حولي: لأولادي، ولأهل عدنان زوجي المفقود، ولأسر المفقودين ".

بعد أكثر من أربعة عقود من النضال، تحويل القضية إلى مادة فنية قد يُعيد إحياء النقاش العام حول ملف المفقودين قسراً في لبنان، ويعتبر الفن أداة أساسية للتثقيف السياسي، والنضالي في لبنان، وتشير وداد، أن "الفنّ منح لغة جديدة للتواصل مع الناس، ولا سيّما مع جيل الشباب الذي لم يعش الحرب الأهلية، ولا يعرف عن القضيّة شيئًا، ويجذبه التعبير الفنّي على اختلاف أنواعه من مسرح وسينما وموسيقى. واستنتجتُ أنّ نقل تجربة شخصيّة إلى المسرح لم يُضع القضيّة، رأيتُ كم تفاعل الناس وتأثّروا، بعضهم بكى، وبعضهم صفق، وهذا التفاعل العاطفي العميق جعلني أدرك أنّ هناك رسائل نحتاج إلى سنوات لإيصالها، وربّما عقود ونحن أصلًا نخوض هذا النضال منذ 43 سنة على الأرض".

تحدي كتابة النص

تُعرف وداد حلواني بنشاطها النضالي، والتي نظّمت مع لجنة أهالي المفقودين، تظاهرات متكرّرة عند متحف بيروت. كانت المخرجة لينا أبيض تراها من بعيد، لكن لم يسبق لها أن تحدثت معها شخصياً، أو تعرّفت إليها عن قرب.

وأوضحت لينا، في حديثها مع DW عربية، "بالنسبة لي، كان من المهمّ أن أطرح ثلاثة محاور أساسيّة من خلال هذه المسرحيّة.

المحور الأوّل هو علاقة الحب بين وداد وعدنان. لم تكن هذه القصة مجرّد خلفيّة عاطفيّة، حبّ حقيقي تحوّل إلى ألم، وبالتالي إلى فعل ومقاومة. والمحور الثاني هو حياة وداد اليوميّة على المستوى الشخصي. كيف تعاملت مع الفقدان وسط علاقاتها العائلية: مع أولادها، مع أهل عدنان، ومع أهلها. كيف خاضت هذه المعركة وهي في سن الثالثة والثلاثين، من دون أيّ خبرة أو تصوّر مسبق لما ينتظرها.

أما المحور الثالث، فهو علاقتها مع الدولة. كيف تعاملت الدولة مع هذه القضية ببرود ولا مبالاة، بل باستهتار يصل إلى حدّ الإهانة. كان من الضروريّ بالنسبة لي أن يضع الجمهور إصبعه على هذا الجرح، وأن يشعر بالغضب، أن يفهم أنّنا نعيش في دولة فاشلة، فاسدة، دولة تجاهلت قضية المفقودين كما تجاهلت كلّ الجرائم الأخرى."

مشهد من المسرحية التي تجسد التفاعل بين الضوء والصوت لإحياء ذكرى المختفين قسراً في لبنان.صورة من: Pro Studio

لم تكن مهمة لينا أبيض سهلة، في الإخراج والموازنة بين الصدق الوثائقي والتعبير المسرحي الإبداعي في عمل يتناول مأساة إنسانية مستمرة، بهذا الحجم، لكنها استمدت قوة العمل من تفاصيل حياة وداد، فتفاعل الجمهور مع العمل بصدق، فالمسرح كان يطفو بأحاسيس الجمهور، محاولاً لمس قساوة حياة وداد.

أوضحت لينا في حديثها أن "التحدّي لم يكن فقط في القصّ، بل في المسؤولية أيضًا: كيف أنقل جوهر هذا النضال من دون أن أُسطّحه، ومن دون أن أُرهق الجمهور، وفي الوقت نفسه أحافظ على صدقه وعمقه؟ هذا كان التمرين الأصعب في كلّ مراحل العمل." وتابعت، "فكرة أن يكون عدنان "حاضرًا" في المسرحية، وأن تتحوّل إلى حوار بين وداد وعدنان، جاءت من وداد نفسها.

وداد هي التي أوحت لي بذلك حين روت لي كيف تعاملت مع غيابه في الأيام الأولى بعد اختطافه. كانت، حين يخلد الأولاد إلى النوم، تجلس أمام صورة زوجها المفقود وتتحدث إليه. تخبره كيف مرّ نهارها، تستشيره، تعاتبه أحيانًا، تقول له كم تشتاق إليه، وأحيانًا تتشاجر معه… هذا الحوار، الذي استمرّ رغم الغياب، رغم الخطف، رغم الغموض، هو ما ألهمني لكتابة الحوار المسرحي بين عدنان ووداد".

الفن: أداة فعالة لتغيير السياسات

ينسجم مشروع "النساء في القيادة" المنفذ من قبل "المعهد العربي للمرأة" في الجامعة اللبنانية الأميركية، مع سيرة وداد حلواني، فهي تعتبر نموذجًا نسويًّا بامتياز، فهي امرأة حملت قضية بحجم الوطن، بلا كلل ولا ملل، وبمثابرة استثنائية.

وفي حديث مع ميريام صفير، رئيسة "المعهد العربي للمرأة"، لـ DW عربية، قالت، "نحن نرى أن وداد ليست فقط رمزًا لنضال إنسانيّ، بل رمزًا نسويًا وقائدة بالمقاييس كلها. لقد خاضت معركة شرسة، في وجه نظام سياسي وقانوني وأمني معقّد، ورفضت المساومة أو التراجع، واستمرّت، ولا تزال، تمثّل صوت آلاف النساء والعائلات."

وتتابع قائلةً، "نحن نؤمن بأن الفن يؤدي دورًا بالغ الأهمية، لا سيّما في القضايا الحقوقيّة. في المعهد، نعمل عند تقاطع ما بين النشاط الحقوقي والعمل الأكاديمي. صحيح أننا نُجري دراسات وأبحاثاً، وقد أنجزنا بالفعل دراسة بالتعاون مع المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ) حول أوضاع نساء وأطفال المفقودين، وما يمرّون به من تعقيدات قانونية واجتماعية، مثل الحق في المعاش، أو حق الحضانة، أو إثبات الولاية، أو حتى إمكانيّة إعلان الوفاة لمتابعة بعض المعاملات".

الجمهور في حديث مع وداد حلواني بعد عرض "وداد... النملة التي حفرت في الصخر".صورة من: Pro Studio

الوضع القانوني للقضية

أوضحت وداد حلواني، وهي عضو في هيئة أهالي المفقودين في حديثها مع DW عربية، "فيما يتعلّق بوضع القضيّة حاليًّا، فإنّه وبعد أن تمكّنا من انتزاع قانون 105 عام 2018 المتعلّق بالمفقودين والمخفيّين قسراً، والذي استغرقنا 36 سنة من النضال لتحقيقه، بات عمر هذا القانون سبع سنوات بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.

وبموجب هذا القانون، صدر في تموز/يوليو 2020، أي بعد نحو سنة ونصف من صدوره، أول مرسوم تطبيقي يقضي بتشكيل الهيئة الوطنيّة المستقلّة للمفقودين والمخفيّين قسرًا. ورغم أهميّتها، لم تُمنح الهيئة المقوّمات الأساسيّة المنصوص عليها في القانون كي تؤدّي مهامها بشكل فعّال."

إلى جانب ذلك، تقوم لجنة الأهالي بنشاطات عدّة، لا سيّما في هذه السنة التي تُصادف مرور خمسين عاماً على اندلاع الحرب في 13 نيسان/ ابريل. وعليه، قرّرت اللجنة توسيع نشاطها ليشمل كامل السنة. فأطلقت حملة إعلاميّة وإعلانيّة على وسائل التواصل الاجتماعي بعنوان "خمسين الحرب"، واستكتبت مجموعة واسعة من الشخصيّات من خلفيّات مختلفة، فنانين، إعلاميين، قانونيين، أكاديميين، وزراء، نوّاب، أفراد لكتابة نصوص قصيرة بالمناسبة. تُنشر هذه النصوص يومياً على صفحات لجنة الأهالي على فيسبوك وإنستغرام.

لم تكن وداد حلواني تعمل لمصلحتها الشخصية فحسب، بل كانت بمثابة النواة وخلية الدينامو للنضال النسوي وحقوق الإنسان وقضية المفقودين في لبنان. قادت هذا الكفاح بصوتها المجروح وآلامها، لكنها كانت تعبر أيضاً عن صوت ومعاناة آلاف العائلات. وكان من الضروري أن يدرك الناس هذه الحقيقة العميقة.

DW المصدر: DW
شارك

إقرأ أيضا


حمل تطبيق آخر خبر

آخر الأخبار