إذا نظرت إلى قمم الأشجار في بعض الغابات، ربما تلاحظ ما يشبه القنوات بين الفروع الخارجية للأشجار فوق رأسك، وهي تتداخل معا فيما يشبه الأحجية الورقية، في ظاهرة طالما لفتت انتباه المصورين والعلماء على حد سواء، وسميت "حياء التاج".
ومنذ عشرينيات القرن الماضي، اهتم العلماء بتوثيق ودراسة هذه الظاهرة، لكن إلى الآن لا يوجد اتفاق حول أسباب حدوثها، لكن أهميتها بالنسبة لتلك الأشجار واضحة، حيث إن أحد أهم أهداف النباتات هو التعرض بأفضل شكل للشمس، وهو أمر بالغ الأهمية لعملية التمثيل الضوئي، وبذلك تمنع هذه الظاهرة أي تظليل محتمل للأشجار أو أجزاء منها.
ويعتقد فريق من الباحثين أن الرياح تتسبب في اصطدام الأغصان بجيرانها القريبين، مما يتسبب في تلف أوراقها وبراعمها، ونتيجة لذلك تحد الأشجار من نمو أطرافها في هذه المواقع لتجنب المزيد من الضرر، ويعني ذلك وجود "تقليم متبادل" بين الأشجار في الغابات.
وعام 1955، أجريت دراسة على أشجار الكينا شمال شرق أستراليا، حيث تتسبب الرياح الشديدة غالبًا في احتكاك الأشجار ببعضها، ويؤدي التآكل الناتج لموت أطراف الأشجار الحساسة النامية، مما يؤدي لتباعدها، لكن هذا لم يكن واضحًا في كل الأشجار.
وعام 1984 أظهرت أبحاث أخرى على أشجار المانغروف نتيجة قريبة، حيث ظهر للباحثين أن "حياء التاج" نتاج لمعركة بين الأطراف العليا للأشجار أثناء هبوب الرياح، فتقوم كل منها بتنظيف مساحة صغيرة محيطة بأطرافها، وفي النهاية ينشأ هذا الشكل البديع.
ويستشهد أنصار هذه الفرضية بأن ظاهرة "حياء التاج" ترصد بشكل خاص في الظروف المواتية لهذا التقليم، بما في ذلك الغابات العاصفة، ومجموعات الأشجار المرنة.
يفترض فريق آخر من العلماء أن الأمر أعقد من مجرد حركة لأطراف الأشجار، حيث يمكن لكل شجرة أن تستشعر النباتات القريبة من مسافة، وبذلك تنمو إلى الحد الذي لا يعرضها للتلامس مع أطراف الأشجار الأخرى، حتى لا تظللها وتمنع عنها الشمس أو تمنع نموها.
ويعتمد هذا الفريق على حقيقة أنه ثبت من قبل أن أوراق الأشجار يمكنها أن تستشعر الضوء البعيد الذي يرتد عليها بعد اصطدامه بالأشجار القريبة منها، كما أثبتت أبحاث أخرى أن الأشجار تمتلك نظام استشعار متخصصا للكشف عن المواد الكيميائية المنبعثة من الجيران القريبة، بمعنى أن النبات يستخدم هذه الوسائل لتحديد المسافة بينه وبين النبات القريب، ومن ثم ينمو إلى مستوى يمنع التلامس.
وتأكيدا على هذه الفرضية استنتج فريق من الباحثين الماليزيين، بعد دراسة نبات درايوبالانوبس أروماتيكا، أن أطراف النمو كانت حساسة لمستويات الضوء وتوقفت عن النمو عند الاقتراب من أوراق الشجر المجاورة بسبب الظل الذي نشأ عن اقترابها.
لكن في النهاية يظهر أن لـ"حياء التاج" أهمية تكيفية كبيرة، فبجانب أن الظاهرة تسمح للأشجار المختلفة بالحصول على أفضل تعرض لضوء الشمس، فإنها كذلك تترك فجوات للضوء ليمر إلى الأسفل حيث النباتات الأصغر والحيوانات التي تحتاج الضوء.
وأضف إلى ذلك أن "حياء التاج" بشكل أو بآخر يشبه درجة من درجات التباعد الاجتماعي، حيث يمكن أن يسهم في تقليل انتشار الأمراض بين النباتات، خاصة حالات الأوبئة التي تنتشر بالغابات مثلما تنتشر بين جموع البشر.
وفي كل الأحوال، فإن عالم الأشجار لا يختلف كثيرا عن عالم الحيوان أو عالمنا نحن البشر، حيث تتنافس أفراده أو يتعاونون في سياقات مختلفة.
فمثلا، يمكن للأشجار من الأنواع المختلفة، أو حتى من نفس النوع، تبادل الكربون والنيتروجين والفوسفور من خلال شبكات الجذور، ويدعم هذا التعاون صحة الغابة ومرونتها ككل.
ومن خلال هذه الشبكات تحت الأرض، يمكن للأشجار أيضًا إرسال إشارات تحذيرية إلى أشجار أخرى حول التهديدات مثل الإصابة بالحشرات، مما يسمح للأشجار الأخرى بإعداد دفاعاتها من خلال إنتاج مواد كيميائية واقية.
ولكن الأمر ليس بهذه السلمية دائما، حيث تنشر أنواع من الأشجار جذورها بالأرض للتنافس مع جيرانها على المغذيات في التربة، وترتفع بعض الأشجار بسرعة لأعلى نقطة ممكنة بين مجموعة من الأشجار للحصول على ضوء الشمس، وتطلق بعض الأشجار -مثل الجوز الأسود- مواد كيميائية في التربة تمنع نمو النباتات القريبة مما يقلل من المنافسة.