يعدّ البحث العلمي والابتكار من المحركات الرئيسية للتنمية المستدامة، ورغم وجود إستراتيجية عربية في هذا المجال وتوفر طاقات بشرية وعلمية هائلة في المنطقة العربية، فإن منتجات هذا القطاع لا تمثل -وفق الخبراء- ركيزة أساسية في مجابهة التحديات المتزايدة التي تواجهها هذه الدول مثل شح المياه والتدهور البيئي والتغيرات المناخية والبطالة.
وقد مثل موضوع الريادة والابتكار في المجتمعات العلمية والجامعية العربية محور الدورة العاشرة للمنتدى العربي للبحث العلمي والتنمية المستدامة التي انعقدت يومي 11 و12 سبتمبر/أيلول الماضي في تونس. وفي هذا اللقاء الذي نظمته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) وحضره رؤساء هيئات ومؤسسات البحث العلمي ومجموعة متميزة من العقول العربية والمهاجرة، تداول الحاضرون واقع الريادة والابتكار وسبل تحفيز التميز والابتكار في الدول العربية.
عقدت هذه الدورة في إطار الخطة الإستراتيجية العربية للبحث العلمي والتكنولوجيا والابتكار التي اعتمدتها القمة العربية الثامنة والعشرون المنعقدة في البحر الميت في عام 2017، وأوكلت مهمة متابعة تنفيذها للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، كما يقول مدير إدارة العلوم والبحث العلمي في الألكسو الدكتور محمد سند أبو درويش.
الجزيرة نت تابعت الملتقى، وحاورت عددا من العقول العربية المميزة وممثلي هيئات ومؤسسات البحث العلمي حول واقع الريادة والابتكار، وعوائق تطويره، والحلول الممكنة لتحفيزه.
يجمع الخبراء الذين تحدثت إليهم الجزيرة نت في تشخيصهم لواقع الريادة والابتكار في الوطن العربي على وجود جملة من العوائق التي تحول دون مزيد تطويره، حيث يقول الدكتور منيف الزعبي نائب رئيس منظمة المجتمع العلمي العربي إن "الابتكار لا يُعدّ مكوّنا أساسيا من الثقافة الجمعيّة في الدول العربية في الوقت الحاضر، وذلك لأسباب كثيرة منها غياب مفهوم العلم النفعي في المجتمعات العربية، وانعدام الثقافة العلمية عموما، وثقافة الدقة والاتقان خصوصا، والتي تمثل ركائز الثقافة العلمية الإبداعية الناهضة".
ولاحظ المتحدث أن دوائر صنع القرار في أنظمة العلوم والتكنولوجيا والابتكار في الدول العربية "تركز على المدخلات وبدرجة أقل على المخرجات، وقد حان الوقت لعكس هذا التوجّه، والتركيز على النتائج أو المخرجات".
وأوضح الدكتور الزعبي العلاقة الوثيقة بين الابتكار وريادة الأعمال بقوله إنها "علاقة تكاملية بامتياز، فالابتكار وما ينتج عنه من سلع وخدمات يتم تمويله وتسويقه من خلال ريادة الأعمال، ومن دون ظهور الابتكارات التكنولوجية الجديدة تبقى ريادة الأعمال في فضائها التقليدي. ومن دون ريادة الأعمال، تبقى الابتكارات مجرد أفكار في عقول أصحابها".
وتقول الدكتورة نبال إدلبي، مديرة قطاع الإحصاء ومجتمع المعلومات والتكنولوجيا في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، في حديث للجزيرة نت "فيما يتعلق بالابتكار وريادة الأعمال في المنطقة العربية ما زلنا نحتاج إلى مزيد من الجهود. الوضع ليس جيدا حاليا مقارنة مع دول الأخرى"، مضيفة أننا "نحتاج إلى أن تكون لدينا سياسات للابتكار في دولنا العربية، ولئن وجدت هذه السياسات في بعض الدول فإنها قد لا تكون مفعلة".
في المقابل، تؤكد الأمينة العامة المساعدة لمجلس التعليم العالي في البحرين الدكتورة فرزانة عبد الله، في تصريح للجزيرة نت، أنه "من خلال الأوراق المعروضة في المنتدى، هناك جهود كبيرة تقوم بها الدول العربية لتشجيع الريادة والابتكار. وقد تم تحقيق بعض المراكز المتقدمة في مؤشرات الريادة والابتكار العالمية، ولكن يمكن تحقيق مراتب أفضل في هذه المؤشرات"، مشيرة إلى أنه "رغم الإنتاج العلمي الضخم الذي يقوم به الباحثون والأكاديميون فإن نسبة قليلة فقط من هذا الإنتاج يمكن الاستثمار فيها وتحويلها إلى منتج".
بحسب الزميلة العالمية في جامعة هارفارد الدكتورة رنا الدجاني فإن "التحديات في الوطن العربي لا تتمثل في قلة العقول أو الإمكانيات، بل تكمن في عدم وجود البيئة الحاضنة التي تمكّن هذه العقول من الاستفادة من هذه الإمكانيات".
من ناحيتها ترى الدكتورة إدلبي أن أحد أهم التحديات التي تحول دون تطوير الريادة والابتكار في المنطقة العربية هو "عدم ربط الابتكار بالعملية التنموية والأعمال الاقتصادية والاجتماعية، وحاجة مجال البحث والتطوير إلى جرعة أكبر من الاهتمام سواء من ناحية الأموال المرصودة أو من ناحية الأكاديميين".
بالإضافة إلى ذلك، أشار عدد من المتخصصين إلى غياب التحفيز الكافي لمؤسسات الابتكار، ووجود نقائص في البيئة التمكينية للبحث والابتكار مع وجود العديد من التشريعات غير الملائمة لتحفيز الابتكار في الدول العربية، وغياب تمويل كاف لدعم المبتكرين والحاضنات التكنولوجية يسهل القيام بالأعمال القائمة على الابتكارات وإنشاء الشركات.
إنشاء هذه البيئة الحاضنة لأعمال الابتكار والريادة يتطلب، وفق الدكتورة رنا الدجاني في تصريحها للجزيرة نت، تنسيق الجهود والتعاون ليس فقط بين المؤسسات وإنما كذلك بين الباحثين والمبتكرين أنفسهم، مؤكدة أن "العمل الحقيقي يحصل بين الأفراد الذين يأخذون زمام المبادرة من تلقاء أنفسهم وهو جزء من تغيير نمط التفكير" لا سيما وأن "وسائل التواصل بين العلماء والباحثين أصبحت متيسرة بفضل التكنولوحيا، وهذا التعاون يبني شراكات يمكن أن تحدث نقطة تحول إذا تراكم الحد الأدنى منها طبقا لنظرية الفوضى في الفيزياء".
أحد الحلول المقترحة، بحسب الدكتور منيف الزعبي، يتمثل في استكمال بناء منظومات العلوم والتكنولوجيا والابتكار في الدول العربية، وتحديد أهداف واقعية، وتوفير التمويل الكافي للبحث العلمي مع إجراء مراجعة شاملة لسياسات الابتكار بشقيه الأكاديمي والفردي وخصوصا في أوساط الشباب. ويتأتى هذا من خلال "مراجعة شاملة لمناهج التعليم المدرسي والجامعي بحيث يصبح الابتكار جزءا منها".
ودعا نائب رئيس منظمة المجتمع العلمي العربي صنّاع القرار العربي إلى "إطلاق الطاقات الشابة بهدف المساعدة في تحقيق أهداف التنمية المستدامة ومعالجة المشاكل التي تواجه الدول العربية من خلال أدوات العلوم والتكنولوجيا".
الذكاء الاصطناعي أيضا يمكن أن يكون رافعة أساسية للريادة والابتكار في الوطن العربي في المستقبل، وفق خبير الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي الدكتور طه ريدان، الذي يؤكد -في حديثه للجزيرة نت- حاجة المنطقة العربية الملحة لتطوير ذكاء اصطناعي عربي يتولى تحليل البيانات المحلية ومن ثم تطوير تطبيقات خاصة بالمنطقة.
وأشار ريدان إلى أن "الكثير من الوظائف ستندثر وستظهر أخرى جديدة بحلول عام 2050 بفضل الذكاء الاصطناعي الذي سيحدث ثورة أيضا في المجالات المرتبطة بالتعليم والتعليم العالي، وهذا يعني أن الفرد سيكون أذكى ويولد أفكارا أكثر مما يُحدث أثرا إيجابيا على المستوى المعيشي والاقتصادي".