سرايا - في الليالي التي يجلس فيها الأمريكان عند نيران السَّمَر، يحكون بطولات لاكوتا وشعوب السيوكس، ويُعلّقون أسماء النساء الشجاعات على صدور تاريخهم، من ماتونا إلى آخر رماحهم…
وفي بلاد الإنجليز، يرفعون للسماء رايات كارتيناندوا زعيمة قبيلة بريغنتس، يكتبون عنها كأنها سيدة القرون وكل شموخ الأرض.
وأنا…
جالس اقراء وبين أصابعي قلمي، كأنّي أعصر به وجع وطنٍ غُطِّيَ غباره بطولات حتى للشيخات لم تُروَ…
أقرأ، فأغضب… أكتب، فأنتفض…
وأقسم لقلمي ..
إن لم تفاخر بما أكتب فإني أُقسم أن أجعلك تتوب عن الفخر ما حييت... وتكتب عن باسكال مشعلاني ..
ينبعث القلب من مرقده…
ويعود الصوت الذي علّم الريح معنى الهيبة…
تعود ذاكرة سهول الأزرق، وذِرى وادي العيون، وتلال عرقوب قريات الملح…
تعود كلها لتشهد ...
أن هناك أصواتاً للفرسان والفارسات ، إذا صهلت خيولهم رجفت الأرض تحتها...
ومن بين تلك السطور…
من بين العجاج والقافية والسيوف…
تخرج هي
(( الشيخة الزعيمة… فاطمة بنت دهيم السرحان ))
امرأةٌ ليست امرأة…
بل مقامٌ تُرفع له الرايات.
هيبةٌ تمشي… وصوت إذا خرج، خرج معه رعدٌ يدق طبول الحرب.
كانت قائدة الحج، أميرة المناخ، راعية القوافل من سهول حوران إلى الأزرق…
لا يمسّ قافلتها لصّ، ولا يقترب من ظلّها قاطع طريق…
فالناس تقول ... (( بنت دهيم إذا صاحت… قامت الفزعة من كل صوب ))
وكانت تقول .. نخوتها ترعد رعد ...
يا أهل السيف… يا أهل الوغايل… قوموا يا السرحان.
ولا تُنادي إلا للمقام… ولا تُرفع يدها إلا لشيء تهتز له العروش.
ويشهد التاريخ… ويشهد شكري باشا نفسه ..
وحين وقف شكري باشا .. بعجرفته العثمانية
يريد أن يفرض جمالاً إضافية على القافلة بحجة الإمدادات…
قامت هي.
وقفت أمامه بلا سيف، بلا خنجر… لكنها وقفت بـ هيبتها.
وقالت له، والجمع يسمع:
انت شكري… تقدّم وافرض… وشوف وش يصير لك.
فانكسرت نبرة الرجل…
وتراجع خطوة… ثم خطوتين…
لأنه أدرك أن أمامه امرأة
إن غضبت…
غضب التاريخ كلّه معها... وهكذا ........
تسدل الليالي برداءها على قصةٍ أقسمت أن تبقى واقفة ولو سقطت كل الرايات.
قصة شيخة لم تكن بنت قبيلة…
بل كانت قبيلة تمشي في جسد امرأة.
فاطمة بنت دهيم السرحان..
اسمٌ ما زال إذا مرّ على مسامع الأرض ينتفِض التراب تحته.
اسمٌ إذا نُطق، انحنت له سقوف المجالس
كما تنحني السيوف لأصحابها.
كانت آخر من علّم الرفاق أن الهيبة ليست صرخة…
بل سكون ما قبل العاصفة.
وليست شجاعة…
بل غضب محفوظ داخل صدر شيخة لا تخاف الموت.
رحلت جسداً…
لكن هيبتها بقيت تسكن الطرقات التي عبرتها القوافل،
وتجلس على ظهور الخيل التي سَمِعَت صوتها،
وتحرس الليالي التي كانت تُنادي فيها الفزعة
فتنهض الرجال كأن الأرض أنجبتهم في اللحظة نفسها.
ورغم أن الزمن طوى آلاف الوجوه…
لم يقدر أن يطوي وجهها.
ورغم أن الدروب محَت آثار قدم الكثير…
لم تستطع أن تمحو أثر امرأةٍ كانت تمشي وكأن خلفها معركة كاملة تنتظر ،،،
وإن سألت الأرض عنها…
ستقول لك ..
لم تمت… بل صارت هيبةً لا تُدفن، وسيرةً لا تُنسى، وعياراً يُقاس به الشيخات ...
رحم الله الشيخة والفارسة فاطمة دهيم السرحان
واسكنها الفردوس الأعلى
حارس الكلمة وكاتب السنديانات
قدر المجالي
المصدر:
سرايا