بإعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب المجال الجوي لفنزويلا مغلقا تماما، تكون الولايات المتحدة قد اقتربت من توجيه ضربة عسكرية لهذه الدولة النفطية في أميركا اللاتينية لتغيير السلطة السياسية المناوئة لواشنطن بالقوة العسكرية، والإتيان بأخرى تابعة، أو زيادة الضغط على الرئيس نيكولاس مادورو لإجباره على الاستقالة، أو على الأقل جره إلى طاولة المفاوضات ضعيفا مستسلما، فتأخذ منه واشنطن بالتفاوض ما يمكن أخذه بالسلاح، أو أكثر.
تريد أميركا أن تُحيي مشروعها القديم في أميركا اللاتينية وتتذرع بمواجهة عصابات المخدرات والهجرة غير الشرعية، لتواصل ممارستها سلوكا طالما نبع من إدراك واشنطن لأميركا اللاتينية باعتبارها حديقة أو فناء خلفيا للإمبراطورية الأميركية، على الأنظمة الحاكمة لدولها أن تدور في الفلك الأميركي، أو على الأقل، لا تدور في فلك آخر غيره.
وهنا ترى واشنطن أن الصين، وروسيا، وإيران تمددت مصالحها في القارة اللاتينية عبر بوابة فنزويلا، ولذا حان الوقت لوضع حد حاسم لهذا.
هذا هو السبب الحقيقي لتصرفات واشنطن حيال النظام الحاكم في كاراكاس، إلى جانب طمع الأميركيين في ثروات فنزويلا، ومنها النفط والمعادن، وهي بهذا تكرر نمطا من الدفاع عن المصالح الأميركية في أقرب بقعة جغرافية لها، طالما رأيناه منذ منتصف القرن الـ19، وإلى الآن.
فأميركا تدخلت عسكريا في أميركا اللاتينية بشكل مباشر ثلاثين مرة، توزعت على احتلال أرض، وإنزال قوات لمساعدة أنظمة حكم تابعة، وممارسة عمليات قتالية محدودة الأهداف، فضلا عن سبعين تدخلا آخر غير مباشر، منها دعم انقلابات عسكرية، وإمداد مليشيات مناوئة لحكومات بالسلاح والمال والمؤن، وتدريب قوات، وحصار دول، وعمليات سرية لجهاز الاستخبارات الأميركية "سي آي إيه".
وشملت هذه التدخلات، المباشرة وغير المباشرة، أغلب دول أميركا اللاتينية وأميركا الوسطى أو منطقة الكاريبي. ففي القرن الـ19 تدخلت الولايات المتحدة عسكريا في المكسيك، ونيكاراغوا، وهاييتي، وبنما، وكولومبيا.
وفي القرن العشرين تدخلت في كوبا، وبورتوريكو، وبنما، والدومينيكان وهاييتي، ونيكاراغوا، وهندوراس، وغواتيمالا، وتشيلي، وغرينادا، بينما نفذت في القرن الحالي عمليات أصغر تتعلق بالحرب على المخدرات، كانت في الأساس بتنسيق مع حكومتي كولومبيا وهندوراس.
ولم يكن هذا التدخل في أي دولة لمرة واحدة إنما مرات عديدة. أما التدخلات غير العسكرية فلم تنجُ منها أي من دول القارة.
ولا يقتصر التدخل الأميركي في فنزويلا هذه المرة على الإتيان بنظام تابع لواشنطن فقط، إنما هناك طمع ظاهر في الاحتياطات النفطية للبلاد، لا سيما أن المعارضة الفنزويلية الموالية للأميركيين تتحدث دوما عن فرص أمام شركات الطاقة الأميركية حال تغيير النظام.
وهي التي تمارس ضغوطا على إدارة دونالد ترامب نفسها كي تفتح أمامها باب فنزويلا، عبر تفاوض خلاق يؤدي إلى نتائج إيجابية في الواقع، بعد ثبوت أن العقوبات القاسية التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها منذ عام 2017 على فنزويلا- وخصوصا قطاع النفط، وأدت إلى تقلص الاستثمارات الأجنبية في مجال الطاقة، وحرمت الشركة الوطنية للنفط "PDVSA"من شراء قطع غيار وتقنيات لازمة لمواصلة الإنتاج بكفاءة- إن كانت قد سببت ضيقا للنظام الحاكم، وأذى للشعب الفنزويلي، فإنها لم تفد أميركا.
وتريد هذه الشركات، التي تستفيد من التنقيب عن النفط في فنزويلا وتصفيته واستيراده، أن يجد ترامب حلا خارج العقوبات، التي فرضها في ولايته الأولى على فنزويلا، لكنها لم تجدِ نفعا، بل زادت من إفقار الشعب الفنزويلي، في ظل تضخم فادح وانهيار الخدمات الأساسية، وأعطت فرصة للنظام الحاكم كي يعمق كراهية أميركا في نفوس الناس هناك، وحشدهم ضدها، ودفع بعضهم للهجرة إلى الولايات المتحدة وغيرها، لا سيما من الفئات صاحبة الخبرات والمهارات المميزة في المجتمع.
وقد أنصتت إدارة ترامب إلى مطالب الشركات هذه في البداية، لكنها لم تلبث أن صمت آذانها عن وجهة نظرها، وراحت تميل إلى الحسم العسكري، وتسوقه للعالم على أنه مواجهة لمهربي المخدرات في أرض فنزويلا، ثم تتهم مادورو بأنه يقود هؤلاء المهربين بنفسه، ويتعاون معه جنرالات بالجيش، وحزبيون كبار في نظامه، حازوا نتيجة لهذا ثروات طائلة.
لكن هذه الذريعة تندرج ضمن مثيلاتها التي طالما قدمتها واشنطن في كل تدخلاتها الخارجية، إذ رفعت شعار "التدخل الحميد" للسيطرة على الصومال ذات الموقع الإستراتيجي، وشعار "الحرية للعراق" للسيطرة على بلاد الرافدين الغنية بالنفط، وشعار "محاربة الإرهاب" للتدخل في مناطق كثيرة من العالم.
فالحقيقة أن واشنطن تضع عينيها على احتياطات نفطية مؤكدة تمتلكها فنزويلا تقدر بـ300 مليار برميل، وهي مسألة لم يستطع بعض السياسيين الأميركيين إخفاءها.
فها هي النائبة الجمهورية ماريا إلفيرا سالازار تقول: "بالنسبة لشركات النفط الأميركية، ستكون فنزويلا احتفالا؛ لأن هناك أكثر من تريليون دولار من النشاط الاقتصادي"، وها هو جيمس ستوري، آخر سفير للولايات المتحدة في كاراكاس، يبين أن الرئيس مادورو هو العقبة أمام استيلاء الولايات المتحدة على نفط فنزويلا، حيث يقول: "يجب أن يختفي مادورو؛ لأنه ممثل سيئ يجلس فوق أكبر احتياطات نفط في العالم، إضافة إلى المعادن الضرورية لاقتصاد القرن الـ21، وقد تحالف مع منافسينا الإستراتيجيين."، وهو يقصد الصين هنا، التي استحوذت في منتصف العام الجاري على 85% من صادرات النفط الفنزويلي.
هذا هو الهدف الحقيقي الذي دفع ترامب إلى قرار فرض الحظر الجوي الكامل على فنزويلا، دون موافقة من مجلس الأمن الدولي، ولا احترام لقوعد منظمة الطيران المدني الدولي "الإيكاو"، ودون أي نظر إلى بنود اتفاقية شيكاغو لعام 1944، ولا حتى موافقة داخلية من الكونغرس.
فواشنطن ليست معنية بكل هذا، وقد اعتادت مرات انتهاك القانون الدولي في سبيل تحقيق مصالحها البحتة، وها هي اليوم، بتهديدها فنزويلا، تنتهك الفقرة الرابعة من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة.
إن قرار ترامب يبدو في الغالب تمهيدا لتدخل عسكري أميركي في فنزويلا، من المحتمل أن يبدأ بتوجيه ضربات صاروخية وجوية لبعض المنشآت والمؤسسات التي تضعف قبضة النظام الحاكم رغبة في إسقاطه سريعا، وبكلفة ضئيلة، أو على الإقل إجباره على الرضوخ للإرادة الأميركية، لكن حال تمكن النظام من تنفيذ خطة التصدي التي أعلنها وصموده في وجه العدوان الأميركي سيجد الجيش الأميركي نفسه مضطرا إلى الانتقال إلى مرحلة أخرى قد تكون التدخل على الأرض.
لا يوجد، إلى الآن، ما يظهر احتمال تراجع الطرفين، فلا واشنطن ستسحب تهديدها بعد أن وصل إلى هذا المستوى المتقدم جدا، ولا الرئيس مادورو لديه استعداد لترك السلطة رضوخا للأميركيين، بل يعتبر هذا إهانة للكرامة الوطنية. هذا يعني أن كل شيء بات على حافة حرب، يبدو أنها آتية لا محالة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر:
الجزيرة