في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
يشهد الاتحاد الأوروبي تحولا عميقا في فلسفة التوسّع، إذ لم يعد يسعى إلى العضوية الكاملة والفورية كما كان في السابق، بل تبنّى رؤية أكثر تدرّجا تُعرف بـ"الاندماج المرحلي" أو "العضوية على مراحل".
ويشير تقرير نشرته صحيفة لوموند إلى أن هذا التوجه يطرح اليوم كخيار عملي ومتوازن، يهدف إلى التوفيق بين ضغوط العواصم في أوروبا الشرقية المطالبة بتوسعة سريعة، وبين هواجس مؤسسات الاتحاد التي تخشى أن يؤدي انضمام متسرّع لدول جديدة إلى زعزعة التماسك الاقتصادي والمؤسسي داخل المنظومة الأوروبية.
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ، اكتسب ملف التوسّع الأوروبي طابعا أكثر إلحاحا، إذ بات يُنظر إلى الدول المرشحة، مثل ألبانيا والجبل الأسود، باعتبارها جزءا لا يتجزأ من المنظومة الأمنية والجيوسياسية لأوروبا، غير أن طريق الانضمام الكامل لا يزال مليئا بالتعقيدات والشروط بعيدة المدى.
وفي هذا الإطار، تشير لوموند إلى أن الاتحاد الأوروبي يتجه إلى اعتماد نهج أكثر مرونة من خلال فتح فصول انتقالية تتيح لتلك الدول الاستفادة المبدئية من السوق الداخلية قبل استكمال جميع المعايير التقليدية للعضوية، بما يمنحها اندماجا تدريجيا دون انتظار اكتمال الشروط النهائية.
وستُترجم هذه المقاربة عمليا -وفقا للتقرير- في عدة مقترحات، منها وضع مراحل للعضوية، أو اشتراطات أقل صرامة، أو مشاركة مباشرة في برامج السوق الداخلية أو التمويل الأوروبي بشرط إنجاز إصلاحات مؤسّسية.
وبشكل أوضح يمكن للدول المرشّحة أن تبدأ بالمشاركة في سوق الاتحاد الاقتصادي أو بعض آليات الاتحاد السياسي، قبل أن تُصبح عضوا كاملا يتمتع بحق التصويت الكامل والتمثيل في مؤسسات الاتحاد.
وعلى صعيد القوى الداخلية للاتحاد، يُنظر إلى هذا النهج كطريقة لاحتواء التوسّع ضمن حدود تحكم، إذ يسمح للأعضاء الحاليين بتخفيف المخاطر المرتبطة بالتوسع السريع، مثل هشاشة مفاجئة في القرار أو زيادة الضغط على الميزانيات المشتركة أو تدهور المعايير المؤسّسية.
ومن جهة أخرى، يُشير التقرير إلى أن هذا التوجّه يعكس تغييرا في الرؤية الأوروبية التي كانت تعتبر التوسّع وسيلة لتقوية وحدتها وتوسيع قيمها. ولكن اليوم، يُنظر إلى التوسّع أيضًا باعتباره اختباراً لقدرة الاتحاد على الامتصاص والتكيّف، أكثر من مجرد ضمّ عددٍ أكبر من الدول.
فعندما تطرح فكرة العضوية على مراحل، فإن ذلك يعني الاعتراف بأن العضوية الكاملة قد لا تكون قابلة للتطبيق لكل دولة في وقت قصير، وبالتالي ينبغي البحث عن صيغة وسطية تمكّن من استغلال فوائد التوسّع مع الحفاظ على معايير وممارسات الاتحاد.
ومن الناحية التقنية، يوضح التقرير أن هذه المقاربة تتطلب إعادة هيكلة قواعد العضوية والمعايير، وإيجاد آليات مرنة لتقييم التقدّم وإحداث آليات مشاركة قبل العضوية الكاملة.
ويُشير إلى أن بعض الدول المرشّحة، رغم إحرازها تقدماً ملموسا في الإصلاحات، قد تنتظر سنوات طويلة قبل أن تُمنح العضوية، لذا يُنظر إلى المراحل الانتقالية كطريقة للتمكين من البدء بالتكامل وتحفيز الإصلاحات، وخفض مناخ الإحباط لدى البلدان المرشّحة.
وفضلاً عن ذلك، يُبيّن التقرير أن هذه الإستراتيجية تُستخدم أداة جيوسياسية، إذ من خلال إشراك الدول المرشّحة في مؤسسات أو برامج الاتحاد دون عضوية كاملة، يبعث الاتحاد رسائل ضمنية إلى القوى الإقليمية، وخصوصاً روسيا ، مفادها أن دائرة النفوذ الأوروبي تتوسّع.
ولكن هذه الرسائل تُستحضَر مع إنذار داخلي أن التوسّع لا ينبغي أن يكون على حساب كفاءة القرار الأوروبي أو قدرة المؤسسات على العمل.
يعيش الاتحاد الأوروبي لحظة انقسام داخلي حادة حول مبدأ التوسعة وآلياتها، حسب تقرير لصحيفة غارديان البريطانية، تعكس في جوهرها صراع رؤى بين تيارين متناقضين:
ويظهر هذا الانقسام جليا بين الدول الأوروبية الكبرى، حيث تقود فرنسا خطا حذرا يدعو إلى إصلاحات داخلية عميقة قبل أي توسعة جديدة، في حين تدفع بولندا ودول البلطيق باتجاه تسريع انضمام أوكرانيا ودول البلقان لتعزيز الأمن الأوروبي وردع النفوذ الروسي.
وتكشف غارديان أن وراء النقاش المؤسسي حول التوسعة صراعا أعمق حول طبيعة الاتحاد الأوروبي ذاته وهل سيبقى كيانًا متماسكا قائما على الإجماع، أم سيتحول إلى اتحاد متعدد المستويات يسمح بمرونة أكبر في العضوية والمشاركة؟
فبينما تميل المفوضية الأوروبية وبعض الدول الطموحة إلى دعم نموذج "الاتحاد المتعدد الطبقات" الذي يمنح الدول المرشحة إمكانية الاندماج الجزئي في قطاعات محددة كالطاقة أو الأمن أو السوق الموحدة قبل العضوية الكاملة، ترى قوى أخرى أن هذا النموذج سيخلف طبقية سياسية داخل الاتحاد ويقسمه إلى نواة غربية قوية وهامش شرقي ضعيف.
ويخشى بعض الدبلوماسيين الأوروبيين أن يتحول هذا التوجه إلى "حل وسط دائم" يحرم الدول المرشحة من العضوية الحقيقية بحجة الاستعداد التدريجي.
ومن جهة أخرى، يعكس الانقسام حول التوسعة تباينا أيديولوجيا أعمق بين رؤية جيوسياسية تسعى إلى جعل الاتحاد لاعبا عالميا قادرا على مواجهة القوى الكبرى، ورؤية بيروقراطية تعتبر أن استقرار المؤسسات أولى من المغامرات الجغرافية.
فبينما تصف بولندا والتشيك وسلوفينيا توسيع الاتحاد بأنه "درع أوروبي" ضد روسيا، تعتبر فرنسا أن الاتحاد بحاجة أولا إلى القوة الكافية والمستقلة في مجالات الدفاع والاقتصاد قبل الانفتاح الخارجي.
ويفسر هذا الصدام -بين فلسفتي الأمن مقابل الاستدامة المؤسسية- حالة الشلل النسبي التي يعيشها الاتحاد في وضع إستراتيجي يتطلب سرعة الحسم.
يُبرز تقرير حديث لصحيفة دير شبيغل الألمانية بعنوان "الاتحاد الأوروبي يحث على تسريع وتيرة الإصلاحات في أوكرانيا" أن ملف التوسّع الأوروبي لم يعد مجرّد مسألة بيروقراطية تتعلق باستيفاء معايير كوبنهاغن، وإنما أصبحت ساحة صراع بين اعتبارات جيوسياسية ضاغطة ومصالح اقتصادية متباينة داخل الاتحاد.
ففي حين تندفع بعض الدول، وعلى رأسها ألمانيا وبولندا ودول البلطيق، نحو تسريع انضمام أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا كحاجز إستراتيجي ضد النفوذ الروسي، فإن دولا أخرى كفرنسا وهولندا والنمسا تلوّح بمخاوف اقتصادية وبنيوية من أن يؤدي التوسع غير المحسوب إلى تكرار أخطاء الماضي، حين التهمت سرعة الإدماج الموارد وعمّقت التفاوتات داخل الاتحاد نفسه.
ويرصد التقرير أن الاندفاع نحو أوكرانيا، رغم طابعه الأخلاقي والسياسي، يكشف تناقضًا هيكليا بين من ينظر إلى الاتحاد ككتلة سياسية ذات بعد أمني، ومن يراه كاتحاد اقتصادي متماسك يقوم على قواعد الانضباط المالي والمساءلة.
ففي حين تصر المفوضية الأوروبية على دعم أوكرانيا في حربها وإعادة إعمارها، فإنها في الوقت ذاته تضع معايير إصلاح قاسية، تشمل مكافحة الفساد، واستقلال القضاء، ومواءمة التشريعات مع منظومة الاتحاد. وبذلك يتحول الدعم إلى شروط دقيقة، هدفها حماية تماسك السوق الأوروبية الموحدة، وتجنّب تفريغ العضوية من مضمونها الإصلاحي.
ومن زاوية أخرى، يوضح التقرير أن البعد الاقتصادي لهذا الجدل لا يقل تعقيدًا عن السياسي، إذ إن أوكرانيا، باقتصادها الزراعي الواسع وقاعدتها الصناعية المتهالكة، تمثل تحديا مزدوجا:
فهي من جهة مصدر محتمل للطاقة والغذاء والمواد الخام، لكنها من جهة أخرى تحتاج إلى استثمارات ضخمة لإعادة بناء البنية التحتية والمؤسسات، وقد يرهق دخولها السريع إلى الاتحاد الصناديق الأوروبية التي تعاني أصلًا من ضغط متزايد على ميزانية السياسة الزراعية المشتركة وبرامج التماسك الإقليمي.
ولذلك تميل بعض الدول الغنية شمال وغرب أوروبا إلى دعم فكرة العضوية على مراحل بشكل قوي، أي فتح فصول محدودة من التعاون دون العضوية الكاملة، ريثما تتهيأ الظروف الاقتصادية والمؤسسية لأوكرانيا. فخلف المواقف الاقتصادية الظاهرة تكمن رهانات جيوسياسية أعمق، إذ ترى ألمانيا في انضمام كييف أداة إستراتيجية لإعادة هندسة الأمن الأوروبي بعد الحرب الروسية.
في حين تخشى فرنسا من أن يؤدي توسع الاتحاد شرقا إلى إضعاف مركز الثقل الغربي وإعادة توزيع السلطة داخل مؤسساته.
ولا يعكس هذا التوتر بين المحورين الجيوسياسي والاقتصادي اختلاف المصالح الوطنية، وإنما يعيد أيضا إلى الواجهة سؤالا جوهريًا حول طبيعة الاتحاد نفسه: هل هو مشروع توسع نفوذ أم اندماج قيم؟
ومن الناحية الاقتصادية، يثير احتمال انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي تساؤلات مهمة حول قدرة الاتحاد على تمويل هذا التوسّع وإعادة توزيع المساعدات.
فبحسب تقديرات المفوضية الأوروبية، فإن دمج اقتصاد أوكرانيا، رغم تأثره الكبير بالحرب، سيؤدي إلى تغييرات في نظام الدعم الزراعي والإنمائي، وقد يفرض تعديل أولويات الميزانية الأوروبية بشكل شامل.
وتخشى بعض الدول الأعضاء أن يتسبب ذلك في تقليص حصتها من الدعم، مما يزيد من التحفظ السياسي تجاه التوسّع.
وفي المقابل، ترى دول أوروبا الشرقية أن ضمّ كييف خطوة ضرورية لاستكمال مشروع أوروبا الموحّدة والحرة، كما وصفها الرئيس البولندي الأسبق ألكسندر كفاشنيفسكي في التقرير.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة