في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
أنقرة- أسدلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الستار على واحدة من أطول معارك التقاضي بين أنقرة والمعارضة الكردية، برفضها استئنافا تقدمت به الحكومة التركية ضد حكم سابق يدعو إلى الإفراج الفوري عن السياسي الكردي البارز صلاح الدين دميرطاش .
وبهذا القرار، الذي يعد الثالث من نوعه منذ عام 2018، يصبح الحكم نهائيا وملزما للدولة التركية دون مجال للطعن أو التأجيل، فقد خلصت المحكمة الأوروبية، في حكمها الصادر في الثامن من يوليو/تموز الماضي، إلى أن احتجاز دميرطاش منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2016 لم يكن ناتجا عن أسباب قانونية مشروعة، بل كان بدوافع سياسية صريحة تهدف إلى إسكات صوت معارض مؤثر وتقويض أسس التعددية الديمقراطية.
وشمل الحكم إلزام تركيا بإطلاق سراحه فورا، ودفع تعويضات مالية تجاوزت 55 ألف يورو، في رسالة واضحة بأن الاستمرار في تجاهل قرارات المحكمة بات غير مقبول.
وتأتي هذه التطورات بينما يواصل دميرطاش قضاء عامه التاسع في السجن، رغم صدور حكمين سابقين عن المحكمة الأوروبية في عامي 2018 و2020، قضيا بعدم قانونية احتجازه، وهو ما يضع أنقرة أمام اختبار جديد لمدى التزامها بتعهداتها الدولية.
وجاء الحكم الأخير الصادر عن الدائرة الكبرى في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان ليشكل نقطة تحول فارقة في مسار قضية صلاح الدين دميرطاش، بعد أن استنفدت الحكومة التركية جميع سبل الطعن القانونية، ما جعل القرار بالإفراج عنه نهائيا وملزما لأنقرة.
ولم تكتفِ المحكمة بإعادة التأكيد على الطابع السياسي لاعتقاله، بل اعتبرت أن إعادة توقيفه في إطار ملف احتجاجات كوباني عام 2014 كانت تهدف بشكل واضح إلى منعه من مواصلة نشاطه السياسي، ووصفت ما جرى بأنه انحراف صارخ عن القانون وتلاعب سياسي بالأدوات القضائية.
وخلصت المحكمة إلى أن التهم والأدلة المقدمة ضده في تلك القضية لم تكن إلا إعادة تدوير لمواد سبق استخدامها في ملاحقات أخرى، بما لا يرقى إلى مستوى المحاكمة العادلة أو التبرير القانوني السليم.
يُذكر أن دميرطاش أُدين عام 2024 بالسجن 42 عاما في قضية كوباني، على خلفية الاحتجاجات التي اندلعت عام 2014 ضد حصار المدينة من قبل تنظيم الدولة الإسلامية ، وهي القضية التي طالما أثارت جدلا سياسيا وحقوقيا داخل تركيا وخارجها.
ولم يقف الحكم الأوروبي عند حد المطالبة بالإفراج الفوري عن دميرطاش، بل ألزم الدولة التركية أيضا بدفع تعويض مالي قدره 35 ألف يورو عن الأضرار المعنوية، إضافة إلى 20 ألف يورو عن نفقات قانونية، في خطوة عكست تشدد المحكمة تجاه ما اعتبرته خرقا متكررا لبنود الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
ويأتي هذا الحكم استكمالا لموقف قضائي متماسك، سبق أن تبنته المحكمة ذاتها في عامي 2018 و2020، حين رأت أن احتجاز دميرطاش لم يكن قانونيا ويستهدف بشكل مباشر تعطيل الحياة السياسية التعددية في البلاد.
ورغم طابعه الحاسم، قوبل قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بشأن صلاح الدين دميرطاش بحذر لافت في الخطاب الرسمي التركي، فقد اكتفى الرئيس رجب طيب إردوغان بالتعليق بأن "الدولة ستلتزم بما تقرره السلطة القضائية"، في إشارة إلى إحالة الأمر إلى المحاكم الوطنية دون إبداء موقف واضح من تنفيذ الحكم.
وبدوره أكد وزير العدل يلماز تونتش أن القضاء سيعكف على دراسة الطلب المقدم للإفراج عن دميرطاش، داعيا إلى انتظار مسار الإجراءات القانونية.
لكن هذه النبرة المتحفظة لم تمنع موجة تفاعل داخلية واسعة طالبت بتنفيذ القرار بشكل فوري، فقد دعا حزب الديمقراطية والمساواة للشعوب الكردي إلى إطلاق سراح جميع النواب والسياسيين المعتقلين، وفي مقدمتهم صلاح الدين دميرطاش وزميلته فيجن يوكسكداغ، معتبرا أن الامتثال للحكم النهائي للمحكمة الأوروبية لم يعد خيارا بل التزاما قانونيا وأخلاقيا.
وفي خضم هذه الأجواء، خرج دميرطاش نفسه برسالة من محبسه في أدرنة، كتبها بخط اليد ونشرت عبر حسابه في منصة "إكس". وصف فيها قرار المحكمة الأوروبية بأنه "خطوة مهمة بدون شك وملزِمة قانونا"، موجها الشكر لكل من وقف إلى جانبه وساند قضيته طوال سنوات السجن.
غير أن دميرطاش تجاوز في رسالته حدود الشكر والإشادة بالحكم، ليؤكد أن الأمل الحقيقي يكمن في تلاحم الشعب التركي، داعيا إلى تجاوز منطق الثأر والانقسام، وبناء مستقبل يقوم على العدل والمساواة والسلام، وختم كلماته بتفاؤل صريح "على أمل أن نلتقي من جديد في أيام الحرية".
ولم تقتصر ردود الأفعال على الأحزاب الكردية والمنظمات الحقوقية، بل امتدت لتشمل زعيم المعارضة التركية ورئيس حزب الشعب الجمهوري أوزغور أوزال، الذي طالب علنا بإطلاق سراح دميرطاش، ويوكسكداغ، ورجل الأعمال المعتقل عثمان كافالا، إلى جانب كل من وصفهم بـ"سجناء الرأي".
وفي تطور غير مألوف قلب التوقعات، صدرت واحدة من أكثر التصريحات إثارة للانتباه عن زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي ، المعروف بتشدده القومي وعدائه التاريخي للحركة السياسية الكردية، إذ صرح من تحت قبة البرلمان بأن "إطلاق سراح السيد صلاح الدين دميرطاش سيكون مفيدا لتركيا"، مشيرا إلى أن المسار القانوني قد استُكمل.
ويرى المحلل السياسي التركي علي أسمر أن قضية دميرطاش لم تعد مجرد ملف قضائي مرتبط بقرارات المحكمة الأوروبية، بل أصبحت جزءا من تحولات أعمق تشهدها الساحة الداخلية في تركيا.
ويقول أسمر للجزيرة نت، إن الدولة التركية اعتادت التعامل بفتور مع أحكام المحاكم الأوروبية، لكنها في هذه الحالة قد تتخذ قرارا بالإفراج عن دميرطاش ليس استجابة لضغوط خارجية، بل انسجاما مع "مسار تركيا بلا إرهاب"، وهو توجه جديد يتطلب إشراك شخصيات مؤثرة قادرة على لعب دور داعم في تعزيز السلم الداخلي.
واعتبر أن تصريح بهتشلي الذي أيد إطلاق سراح دميرطاش يعكس تحولا في أولويات الدولة، حيث تضع المصالح الوطنية فوق الاعتبارات الأيديولوجية أو ردود الفعل الأوروبية.
ويتفق أن وجود دميرطاش خارج أسوار السجن سيكون أكثر فائدة للمسار الجديد الذي تسلكه البلاد، مضيفا أن "القرار النهائي سيصدر عن القضاء التركي، لكنه كما قال الرئيس أردوغان سيأتي بما يخدم المصلحة العليا للدولة، وهو ما يجعل الإفراج عن دميرطاش خيارا مرجحا في المرحلة المقبلة".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة