على وقع توترات وتصعيدات، تبدو الهدنة بين إسرائيل وحماس في غزة أكثر هشاشة من أي وقت مضى، ورغم إعلان وقف إطلاق النار فإن أحداث الأحد أثبتت أن الاتفاق يواجه اختبارا صعبا في الأيام المقبلة.
ففي اليوم المذكور، أعلنت إسرائيل مقتل جنديين إسرائيليين، بينما نفت حماس تنفيذها أي هجوم، ليشن الجيش الإسرائيلي قصفا مكثفا استهدف عشرات المواقع جنوبي قطاع غزة، ويعمق حالة التوتر في المنطقة، ويكشف هشاشة المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، ويطرح تساؤولات حول إمكانية صموده للانتقال إلى المرحلة الثانية.
ورغم إعلان إسرائيل أن الاتفاق "لا يزال ساريا" عقب تدخل أميركي مباشر، فإن الوقائع على الأرض تكشف عن هشاشة هذا الهدوء النسبي.
وتجسدت الوساطة الأميركية بإيفاد المبعوثين ستيف ويتكوف وجارد كوشنر إلى تل أبيب، ثم وصول نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس إلى إسرائيل لمتابعة تنفيذ الاتفاق، في محاولة لدفع الأطراف نحو الالتزام.
وتطرح الولايات المتحدة رؤية ترتكز على تحويل وقف النار إلى ترتيبات أمنية متعددة الجنسيات داخل غزة، مرفقة بوعد بمساعدات اقتصادية ضخمة.
وأكدت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية أن الجيش لا يستطيع تنفيذ عمليات جديدة في رفح أو مناطق أخرى من دون موافقة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، التي أصبحت، بحسب الصحيفة، صاحبة القرار الأعلى في إدارة الصراع.
وأوضحت أن واشنطن "تفرض انضباطا ميدانيا صارما على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني"، بالتنسيق مع الوسطاء من قطر وتركيا ومصر.
توتر داخلي في غزة
وداخل غزة، تواجه حركة حماس تمردا من عائلات ومجموعات محلية، مما دفعها إلى إجراءات قمعية تشمل إعدامات علنية واعتقالات واسعة لخصومها، مما يعكس توترا داخليا يهدد استقرار الحركة وقدرتها على السيطرة.
وقالت حركة فتح إلى أن ممارسات حماس "تمثل امتدادا وظيفيا لمخططات الاحتلال في تفكيك المجتمع الفلسطيني وضرب نسيجه الوطني"، مشددة على أن "الحركة التي حكمت غزة بالحديد والنار منذ انقلابها الأسود عام 2007 ما زالت تمضي في الطريق ذاته، مستخدمة القوة والعنف وسلاح الترهيب لإخضاع الناس، وإسكات كل صوت حر يرفض الظلم والانقسام".
والسبت، قالت وزارة الخارجية الأميركية إن لديها "تقارير موثوقة" تفيد بأن حركة حماس تخطط لهجوم وشيك ضد المدنيين في غزة، في خطوة اعتبرت واشنطن أنها ستشكل "انتهاكا لوقف إطلاق النار".
وأوضحت الوزارة في بيان أن "هذا الهجوم المخطط له ضد المدنيين الفلسطينيين سيشكل انتهاكا مباشرا وخطيرا لاتفاق وقف إطلاق النار وسيقوض التقدم الكبير الذي أحرز من خلال جهود الوساطة".
الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق
وترفض إسرائيل الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق قبل استعادة جثامين الرهائن وفرض ضمانات لنزع سلاح حماس، وحتى الآن سلمت الحركة 13 جثة من أصل 28 جثة في قطاع غزة.
ويضغط التحالف اليميني في تل أبيب لفرض سيطرة إسرائيلية كاملة على القطاع، رافضا أي تسوية تترك لحماس دورا.
من جانبها تصر حماس على رفض "التجريد من السلاح"، وتعمل على إعادة تنظيم بنيتها الأمنية في المناطق التي انسحبت منها القوات الإسرائيلية.
وفي وقت سابقن ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، أن إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس، ووقف الحرب، رغم أنه استغرق عامين، وتطلب جهودا مباشرة من الرئيس الأميركي، وقادة عدة دول عربية وإسلامية، يظل سهلا مقارنة بما هو قادم.
وأوضحت الصحيفة، أن دفع حركة حماس للتخلي عن أسلحتها، ونزع السلاح كامل القطاع قد يكون أكثر صعوبة، رغم أن إسرائيل اشترطت ذلك قبل انسحابها بالكامل من القطاع.
قلق إقليمي
وبينما تحافظ تركيا وقطر على موقفهما الداعم لبقاء الحركة كجزء من "الترتيب السياسي الفلسطيني"، وتعارض أي تدخل عسكري ضدها، تركز الدول الخليجية على الاستقرار وربط التمويل بإصلاح سياسي فلسطيني داخلي.
أما إيران فتراقب الوضع عن كثب، مركزة جهودها على حماية نفوذها في العراق وسوريا بعد خسارتها أدواتها في غزة ولبنان.
وبالنسبة ل مصر، فتعرب عن قلقها من فراغ أمني محتمل على حدودها، وتضغط لتفعيل قوة مراقبة عربية محدودة جنوب القطاع، في حين تحذر الأمم المتحدة من انهيار إنساني وشيك مع استمرار القيود على دخول المساعدات.
ما المتوقع حدوثه؟
وفق المتابعين فإن الاتجاهات الحالية تؤشر إلى تراجع السلطة الفعلية لحماس مع تفكك وحداتها العسكرية، مما قد يقود إلى صراعات داخلية فلسطينية.
وعلى الجانب الإسرائيلي، يشهد موقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تراجعا نتيجة الضغوط الأميركية والانتقادات الداخلية، في مقابل تنامي دور واشنطن الميداني التي تتعامل مع غزة كـ"ملف اختبار" لقيادتها الجديدة، مع تزايد الفجوة في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب، حيث تركز الأولى على "السلام الاقتصادي"، بينما تتمسك الثانية بـ"الأمن الكامل".
وتشير التوقعات بشكل عام إلى استمرار هدنة هشة مع حوادث متفرقة، وتصعيد إعلامي بين الطرفين دون اندلاع قتال شامل.
كما قد تشهد المنطقة دخول قوة مراقبة عربية بقيادة مصر والأردن بشكل رمزي، وتفككا تدريجيا داخل حماس مع احتمال نشوب اقتتال داخلي فلسطيني، إلى جانب ضغوط أميركية على إسرائيل لتقديم رؤية سياسية شاملة للضفة الغربية وغزة معا.
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن اتفاق غزة، رغم كونه خطوة ضرورية، يواجه تحديات جوهرية تهدد استمراريته، مع احتمال ولادة نظام "شبه وصاية" دولية وعربية على القطاع، فيما تنتهي مرحلة "محور المقاومة" كفاعل موحد، لتبدأ عملية إعادة تشكيل الخريطة الفلسطينية الداخلية.