في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
كشفت بيانات مركز بيو للأبحاث لعام 2025، والتي استندت إلى استطلاع شمل ما يقارب 28 ألف مشارك في 24 دولة، عن مستوى متدن من الثقة في الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يتجاوز (34%)، مقابل (62%) يعبّرون عن ثقة مهتزة في مقدرته على التعامل مع الشؤون العالمية.
وتعكس هذه الأرقام تحولا ملحوظا في نظرة شعوب العالم للقيادة الأميركية، هذه الصورة التي سخّرت الولايات المتحدة للحفاظ عليها مقدرات هائلة كبعد آخر بالغ التأثير للقوة الناعمة.
قد لا يترجم الرأي العام بالضرورة مباشرة إلى مواقف النخب السياسية أو السياسات الخارجية الفعلية، إلا أنه يشكل مؤشرا دلاليا ويعبر عن بيئة سياسية خصبة.
يشكل التوجه السياسي الذي يمثله ترامب أحد العوامل المفسرة لتراجع مستوى الثقة العالمية فيه مقارنة بسلفه الرئيس السابق باراك أوباما والذي حظي بمتوسط ثقة بلغ نحو (64%) خلال ولايته الثانية بحسب استطلاعات مركز بيو. ولا يعود هذا الفارق في الثقة إلى اختلافات في الكاريزما فقط، بل يعكس بشكل أبرز تباينا جوهريا في فلسفة السياسة الخارجية لكل منهما.
تمحور خطاب أوباما وسلوكه على مقاربة تعددية تمنح مركزية للشراكة وتعطي وزنا للمؤسسات الدولية، حتى وإن كان في بعض الأحيان على حساب هامش الحركة الأميركية. وقد عكس هذا رؤية ليبرالية مؤسسية ترى أن الهيمنة الأميركية تتعزز أيضا وتصبح شرعية من الالتزام بالقواعد والمعايير التي وضعتها واشنطن نفسها بعد 1945.
في المقابل، تبنى ترامب توجها يصنفه بعض المحللين، مثل آدم تيم، كواقعية معاملاتية غير معهودة وقائمة على التشكيك المنهجي في جدوى الالتزامات الدولية، ويسعى إلى أن يعيد التفاوض عليها بما يحقق منافع وفقا لما يتضمنه شعار "أميركا أولا".
لا تقتصر إشكالية ترامب على العلاقة مع خصوم واشنطن، بل تمتد إلى صلب العلاقة بحلفائها التقليديين.
فحين يشرِّط التزامه بالمادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) بدفع الأعضاء حصصهم الملائمة من نفقات الدفاع، فإن الأمر يتجاوز مسألة تقاسم الأعباء المالية ليطال موثوقية الالتزامات الأمنية، حيث يترجم ذلك إلى إمكانية تخلي واشنطن عنهم عند الحاجة.
وبذلك يتحول التحالف الأطلسي في التصور الأوروبي من ضمان إستراتيجي مبني على الثقة المتبادلة إلى رهان محفوف بالمخاطر يخضع لحسابات براغماتية آنية.
ويقوض هذا الطبيعة العرفية للعلاقات عبر الأطلسية التي بنيت تاريخيا إلى جانب توازن المصالح على أساس قيمي مشترك والتزامات إستراتيجية طويلة الأمد وتتجاوز منطق السوق.
وصف (80%) من المشاركين في استطلاع بيو ترامب بـالمتغطرس، في حين رآه (65%) بـالخطِر، ولم يعتبره صادقا سوى (28%) فقط، ورأى (67%) أنه قائد قوي، ما يكشف عن صورة يجتمع فيها الاعتراف بالقوة لكن مع عدم ارتياح في توظيفها.
تعكس هذه التوصيفات أحكاما على مستويين:
يعبر المكسيكيون عن أدنى مستويات الثقة في ترامب إذ أعرب 91% عن انعدام الثقة في قدرته على التعامل مع الشؤون العالمية.
ويعود الانطباع السلبي المكسيكي العام إلى تقاطع عوامل رمزية وإجرائية: فعلى المستوى الرمزي، ينظر إلى مشروع الجدار الحدودي الذي يسعى ترامب لإكماله كإهانة وطنية وتختزل العلاقة بين البلدين في أمننة الحدود.
أما على المستوى الإجرائي فتشمل جملة من السياسات كالتهديدات بالترحيل الجماعي للمهاجرين المكسيكيين غير النظاميين، الذين يشكلون أكبر جالية مهاجرة في الولايات المتحدة، وتهديدات بفرض رسوم جمركية على الصادرات المكسيكية، ومراجعة اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية.
تحوّل هذه السياسات مجتمعة طبيعة العلاقة الثنائية بين البلدين من شراكة إقليمية، حيث تعتبر المكسيك أكبر شريك تجاري للولايات المتحدة، إلى علاقة تراتبية تقوم على الإكراه.80% من المستطلعين عالميا وصفوا ترامب بـ"المتغطرس"
وقد رافق هذا التحول انهيار الصورة العامة للولايات المتحدة، حيث تهاوت نسبة المكسيكيين الذين ينظرون لأميركا بإيجابية من 61% عام 2024 في ظل إدارة بايدن إلى 29% عام 2025، وهو من أكبر الانهيارات المسجلة في استطلاعات بيو.
في المقابل، تتصدر نيجيريا دول العالم في مستوى الثقة بترامب بنسبة 79%، مما يكشف عن تباين في كيفية تلقي صورة ترامب عبر السياقات السياسية والثقافية المختلفة. مؤكدة العلاقة بين الديناميكيات السياسية الداخلية والنظرة لنمط الزعامة التي تميز ترامب.
وتنتشر في نيجيريا تيارات إنجيلية ومحافظة تجد صدى في خطاب ترامب الديني-القومي، هذا بالإضافة إلى تطلع البلاد إلى تعزيز الدور الأميركي في مواجهة الجماعات المسلحة والتهديدات في منطقة الساحل.
يتمثل التحدي الأكبر الذي تواجهه الولايات المتحدة -في سياق تآكل الثقة- في تراجعها الملحوظ عند حلفائها التقليديين، خاصة في أوروبا، والذين يمثلون الركيزة المؤسسية والقيمية للنظام العابر للأطلسي منذ 1945.
فنسب الثقة في ترامب في الدول الأوروبية تعد الأدنى عالميا: السويد (15%)، ألمانيا (18%)، إسبانيا (19%) فرنسا (22%). بينما بلغت في كندا-الحليف الجغرافي الأقرب (22%) فقط.
وتشير بيانات سابقة إلى أن هذه الأزمة بدأت قبل عودة ترامب للسلطة، لكنها تفاقمت مع توقعات عودته.
ففي استطلاع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) الذي أُجري في نوفمبر وديسمبر/تشرين الثاني وكانون الأول 2024 -أي قبل تنصيب ترامب بشهرين وبعد فوزه الانتخابي مباشرة- عبر 14 دولة أوروبية، لم ينظر إلى الولايات المتحدة كـ"حليف يشاركنا القيم والمصالح" سوى (22%) من الأوروبيين.
ورأى 51% أنها "شريك ضروري"، أي أن العلاقة تميل إلى كونها نفعية براغماتية أكثر منها تحالفية قيمية، ويمثل هذا تحولا ملحوظا عن عام 2023 حين كانت نسبة من يرون أميركا "حليفا" (32%).
بنت أوروبا أمنها القومي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على افتراض أن الولايات المتحدة ستكون الضامن العسكري في حال تعرضها لتهديد وجودي، وقد تجاوز هذا الافتراض كونه مجرد ترتيب أمني، بل أصبح جزءا من البنية النفسية الاجتماعية لكيفية تعريف أوروبا لنفسها بعد الحرب العالمية.
وعندما يضع ترامب هذا الافتراض موضع تشكيك علني فإنه يهزّ العقيدة الجمعية الأوروبية المشتركة حول الأمن.
تضخّم حرب أوكرانيا هذه الهواجس، إذ تُمثل الحرب اختبارا لموثوقية الالتزام الأطلسي. وبحسب استطلاع شركة يوغوف الذي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في 2025، يرى 73% من الأوروبيين أن ترامب تهديد للسلام والأمن في أوروبا بفارق 9 نقاط فقط عن تقييمهم بوتين 82%.
بينما لا تشير هذه الاستطلاعات إلى أرقام عن الثقة في إدارة ترامب لملف أوكرانيا تحديدا، إلا أن المخاوف الأوروبية تتركز حول ميله لعقد صفقات ثنائية مع بوتين قد تتجاهل المصالح الأمنية الأوروبية، خاصة في ظل إعجابه المتكرر بالقادة "الأقوياء" ونزعته نحو التفاوض المباشر بدون تنسيق.
ليس من شأن هذه المخاوف، أن تبقى في دائرة الشعور الكامن بقدر ما تشكل توجها فعليا جادا قد يؤدي في نهاية المطاف إلى نتيجة إستراتيجية تكون فيها أوروبا بلغت درجة أعلى من الاستقلالية الأمنية، حيث يدفع عدم اليقين حيال التزام الحليف الأميركي أوروبا نحو سلوك تحوّطي يهدف لبناء قدرات دفاعية مستقلة.
فوفقاً لاستطلاع المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) في مايو/أيار 2025 الذي شمل 12 دولة أوروبية، يوجد هناك دعم متصاعد لزيادة الإنفاق الدفاعي، حيث أيّدت أغلبيات في بولندا (70%)، والدانمارك (70%)، والمملكة المتحدة (57%)، وإستونيا (56%) زيادة الإنفاق الدفاعي الوطني.
مع ذلك، تصطدم هذه التوجهات مع تناقضات تعود إلى تعقيد بنية العقيدة الأمنية في أوروبا. فبينما يشكك الأوروبيون في موثوقية ترامب، لا يزال يعتقد كثير منهم (48%) أن الولايات المتحدة يمكن الاعتماد عليها في الردع النووي، و(55%) يرون أن الوجود العسكري الأميركي في أوروبا يمكن الاعتماد عليه، بحسب الاستطلاع.
وصف 80% من المستطلعين عالميا ترامب بـ"المتغطرس"، ويحيل هذا التوصيف إلى ما يتجاوز عدم الارتياح مع سماته الشخصية غير المرغوبة.
وقد ميّز أنطونيو غرامشي، الذي طوّر روبرت كوكس مفاهيمه للسياق الدولي، بين نمطين من الهيمنة:
وكان غرامشي قد وصف السلطة، مستعيرا من ماكيافيلي، بأنها "القنطور: نصفها إنسان ونصفها وحش، توليفة من الرضا والإكراه".
قامت القيادة الأميركية للنظام الدولي تاريخيا على توليفة تُمزج فيها قوة مادية طاغية من جهة، مع قبول نسبي في معظم الأحوال من دول أقل قوة من جهة أخرى، حيث اعترفت الدول، حتى غير الحليفة، بمركزية واشنطن مقابل احترام نسبي لمصالحها وسيادتها.
وتعمل التصورات السلبية على تقويض هذا القبول بآليتين:
تنطلق نظرية الردع كما صاغها توماس شيلينغ من افتراض أن الفاعلين السياسيين، رغم تباين مصالحهم، يتصرفون بعقلانية إستراتيجية قابلة للحساب والتنبؤ.
لكن وصف 65% من المستطلعين ترامب بأنه "خطِر" يشير إلى درجة من الإدراك بأنه قد يتصرف بشكل لا يمكن تنبؤه، سواء كان هذا الإدراك دقيقا أم لا.
وهذا الإدراك بحد ذاته يساهم في زيادة هامش عدم اليقين على الساحة الدولية، مما يُخل بأحد أهم العوامل المركزية التي يستقر عليها النظام الدولي وهي القدرة على التنبؤ بسلوك الفاعلين الرئيسيين.
فوصف "خطِر" يحمل دلالات الاندفاع والعاطفية في ردود الأفعال، الأمر الذي يعني شعوراً باحتمالية اتخاذ قرارات لا تخضع لحسابات التكلفة-المنفعة المعيارية، بل لاعتبارات شخصية أو نفسية يصعب التكهن بها.
من ناحية أخرى، يرى 28% فقط من المستطلعة آراؤهم ترامب صادقا في حين تشكّل المصداقية حجر الزاوية لمنطق الالتزام في العلاقات الدولية.
أكّد روبرت جيرفس وتوماس شيلينغ أن قدرة الدول على بناء الشراكات وتعزيز التعاون وحتى إدارة الصراعات تعتمد على تصديق كلٍ منها تعهدات الآخر.
تكشف البيانات أيضا استقطابا أيديولوجيا متسقا عبر مختلف الدول. ففي المملكة المتحدة، يحظى ترامب بثقة 59% في أوساط اليمين مقابل 18% لدى اليسار، ويتكرر هذا النمط في كل من بولندا وألمانيا وأغلب أوروبا الغربية.
هذا الاستقطاب يؤكد أن ترامب يمثّل أيقونة أيديولوجية عالمية للتيارات اليمينية الشعبوية، والتي تتألف من فئاتٍ ساخطة على العولمة الليبرالية ، ورافضة للمؤسسات الديمقراطية التقليدية، ومتشككة في التعددية الثقافية، وترى في ترامب نموذجا ناجحا لمقاومة "نخب العولمة" واستعادة السيادة الوطنية وفقا لما تروج له التيارات القومية المحافظة.
ختاما، تتبلور هذه الصورة الترامبية في العالم مشكلة انطباعا حول المخرجات الممكنة للنمط السياسي الأميركي في الحكم والذي تؤثر دينامياته الداخلية في السياسة الخارجية في فترة تاريخية حرجة تحمل مؤشرات كثيرة على بداية تشكل حقبة جديدة للمنظومة الدولية.
وستبرز صورة ترامب في أذهان المساهمين في تشكل هذه المنظومة كظاهرة أميركية قد تتكرر في أي لحظة.